الجزيرة.نت - 12/31/2025 12:21:27 AM - GMT (+3 )
اعتمدت السينما السائدة في القرن الماضي على نموذج سردي واضح ومطمئن، يقوم على حضور البطل في دائرة الضوء، مقابل ترصد الشرير في الظل، حيث يكون الانحياز الأخلاقي للجمهور محسوما سلفا. وفي النهاية، ينتصر الخير، ويُهزم الشر، ويستعيد العالم توازنه مع انطفاء الشاشة. غير أن هذا اليقين الأخلاقي لم يعد حاضرا بالقدر نفسه في القرن الحادي والعشرين، إذ دفعت التحولات الاجتماعية وتصاعد القلق الجماعي السينما إلى مسارات أكثر قتامة وتعقيدا، لم يعد فيها الشرير مجرد رمز للهزيمة، بل وعيا إنسانيا يخضع للتفكيك والفهم.
وخلال العقدين الماضيين، برز تحول سينمائي لافت تمثل في أفلام تُروى من داخل عقل الشخصية الشريرة، لا بوصفها حكايات عن الشر، بل سردا ينبع منه. أفلام مثل "الجوكر" -2019 (Joker)، و"ماليفيسنت" 2014 (Maleficent)، و"زاحف الليل" 2014 (Nightcrawler )، وحتى الشر البارد الصامت الذي جسده أنطون شيغور في "لا مكان للعجائز" 2007 (No Country for Old Men)، لا تطلب من المشاهد إدانة الظلام أو تمجيده، بل الدخول إليه والتأمل في منطقه الداخلي. فهي لا تختزل الأشرار في دروس أخلاقية مباشرة، بل توسع حضورهم ليشمل عوالم نفسية أكثر عمقا، في انعكاس سينمائي لانهيار ثنائية الخير والشر، أو الأبيض والأسود، في عالم باتت تحكمه درجات الرمادي.
في أفلام هوليود الكلاسيكية، استُخدم الأشرار بوصفهم أدوات سردية خالصة: محفزات للتوتر، وعقبات في طريق البطل، واستعارات مباشرة لمخاوف المجتمع. كانت الشخصية الشريرة تؤدي وظيفة محددة داخل الحكاية، من دون عمق نفسي حقيقي. أما اليوم، فلم يعد الشرير مجرد عنصر مساعد في البناء الدرامي، بل تحول إلى محرك السرد نفسه ومحوره الأساسي.
ويطرح هذا التحول أسئلة مفتوحة: هل جاء نتيجة خيبة أمل متراكمة في صورة البطل المثالي؟ أم أنه انعكاس لعالم لم تعد فيه الأخلاق مطلقة، بل قيما نسبية تتغير من زمن إلى آخر، حيث يمكن لما يعد "عيبا" اليوم أن يصبح "مقبولا" أو حتى "محبوبا" غدا، وما كان محرما بالأمس أن يعاد تعريفه في سياق مختلف؟ أم أن صناع السينما، وقد أدركوا تناقضات السلطة ونفاقها وتصدعها النفسي في الحياة المعاصرة، وجدوا في الشخصيات الشريرة مرآة أكثر صدقا لهذا التعقيد؟
إعلان
أيًا تكن الأسباب، فقد تحول منظور الشخصية الشريرة، الذي كان محظورا في السابق، إلى نافذة جذابة على تناقضات العالم الحديث. ففي فيلم "الجوكر"، لا يقدم آرثر فليك باعتباره مجرد تهديد إجرامي، بل كإنسان سحقه الفقر، وأهملته المؤسسات العامة، ولفظته المدينة. ولا يصور انحداره إلى العنف كقدر محتوم، بل كنتيجة لانهيار اجتماعي ونفسي، يكشف كيف تصنع المدن وحوشها بأيديها.
يدفع مخرج "الجوكر" المشاهد إلى تجربة قاسية لم يكن يتوقعها عند دخول قاعة العرض؛ إذ يشاركه إحساس الاختناق، والإذلال المتكرر، والضغط الاقتصادي، والإهمال الطبي. هنا، لا يعود الشر فعلا مجردا، بل حالة شعورية يتماهى معها المتلقي قبل أن يتماهى معها البطل. فالمخرج لا يكتفي باستدرار التعاطف، بل يسحب المشاهد إلى قلب التجربة، ليصبح جزءا من المشهد وقوة سردية إضافية، لا مجرد متفرج محايد.
إذا كان فيلم "الجوكر" قد أعاد تعريف صورة الشرير في واقع المدينة المعاصرة، فإن فيلم "ماليفيسنت" فعل الأمر نفسه داخل عالم الأسطورة. ففي حكاية "الجميلة النائمة"، قدمت الشخصية الشريرة بوصفها نموذجا للشر العبثي الخالص؛ ساحرة غامضة الدوافع، قاسية الأفعال، لا تحتاج إلى تفسير أو تبرير.
بيد أن فيلم "ماليفيسنت"، الصادر عام 2014، أعاد تقديم الساحرة الشهيرة باعتبارها ضحية للخيانة والتلاعب السياسي والدمار العاطفي. وبهذا التحول، كشف العمل عن تعطش ثقافي لقصص لا يولد فيها الشر فطريا، بل يُصنع عبر الانتهاك والقمع وكسر الثقة.
ينبع تحول ماليفيسنت من اعتداء رمزي على الإرادة والأرض والوفاء، فاللعنة التي ألقتها لم تصدر عن خبث متجذر، بل عن صدمة عميقة. وبهذا، أعادت ديزني تعريف الشر بوصفه جرحا نفسيا، والانتقام باعتباره تعبيرا عن الألم لا عن السادية.
والأهم أن فيلم "ماليفيسنت" أعاد ترتيب أدوات القوة داخل الحكايات الخرافية؛ فلم تعد الشخصية الشريرة مجرد أداة للتلقين الأخلاقي أو ما يعرف دراميا بـ"التطهير"، بل تحولت إلى بطلة تواجه تناقضاتها الداخلية. ويشجع الفيلم المشاهد على إعادة النظر في الحكاية التقليدية، ورؤية العالم من خلال عينيها.
"زاحف الليل" والشرير كمنتج ثقافيإذا كان فيلما "الجوكر" و"ماليفيسنت" يتناولان الشر من زاوية التعاطف مع شخصياتهما، فإن فيلم "زاحف الليل" يقدمه ببرود قاس وخال من أي محاولة للتبرير. فشخصية لو بلوم، التي يجسدها جيك غيلنهال، لا تُقدم باعتباره مريضا نفسيا أو كائنا جريحا خرج من أسطورة مظلمة، بل بوصفه نتاجا مباشرا لأميركا الرأسمالية المتأخرة: شخصية انتهازية بلا رحمة، لا تتردد في اقتناص أي فرصة مهما كان ثمنها الإنساني.
تكمن قوة "زاحف الليل" في أنه لا يدفع المشاهد إلى التعاطف مع بطله ولا إلى النفور المباشر منه، بل يضعه داخل منظوره للعالم؛ رؤية تحولت إلى منظومة متكاملة تقوم على ثقافة الاستغلال، وشعارات التنمية الذاتية المبتذلة، والعلاقة الوثيقة بين الجريمة والإعلام. هنا، لا يبدو الشر سمة فردية بقدر ما هو نظام كامل يعمل بكفاءة.
إعلان
لو بلوم ليس شريرا لأنه اختار الشر، بل لأن العالم الذي يتحرك داخله يكافئه عليه. فكل خط يتجاوزه، من التلاعب بمسرح الجريمة، إلى استغلال الضحايا، وتعريض حياة الأبرياء للخطر، يقابله صعود مهني ومكافأة. إنه عالم لا يعاقب الشر، بل يحوله إلى استثمار ناجح.
وإذا كان فيلم "الجوكر" يروي كيف يمكن للمجتمع أن يسحق الإنسان، فإن "زاحف الليل" يذهب أبعد من ذلك؛ إذ يكشف المجتمع كما هو، بلا أقنعة ولا مبررات.
على النقيض تماما، يبرز أنطون شيغور، شرير فيلم "لا مكان للعجائز"، كشخصية مجردة من أي خلفية درامية أو صدمة نفسية أو مبرر واضح. يرفض المخرجان الأخوان كوين منحه عمقا نفسيا، ويقدمانه كقوة مجردة.
ويتقاطع هذا الطرح مع الانجذاب المعاصر لسرديات تتمحور حول الشرير؛ إذ تبدو شخصية شيغور آسرة بغموضها، وغياب دوافعها، وتحديها للهوس الثقافي بتفسير كل شيء. فهو يجسد رعب الشر الذي لا أصل له، وكأن رسالة الفيلم تؤكد أن الشر لا ينبغي دائما ربطه بمظالم اجتماعية أو نفسية.
وتكمن قوة هذا التصوير فيما يحجبه عن المشاهد؛ فلا بؤس، ولا طفولة مأساوية، ولا مبرر يتيح التعاطف. فقصة شيغور ليست دعوة لفهم الشر، بل مواجهة مباشرة مع لا مبالاته.
التسويق بالتوتر والانهيار الأخلاقيتعامل هذه الأفلام كتجارب معزولة، لكنها مجتمعة تشير إلى تطور سردي أعمق، وهو انهيار ثنائية الأخلاق في السرد القصصي المعاصر، لعدة أسباب، أهمها الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، وميل السرد القصصي الحديث نحو الصراع الداخلي، وهي مواضيع يجسدها الأشرار بشكل أكثر دراماتيكية من الأبطال.
لكنّ الأساس هو التعامل مع الشخص الشرير كمرآة اجتماعية، فما يجمع بين الجوكر، و"ماليفيسنت، ولو بلوم، وأنطون شيغور ليس ظلامهم، بل انعكاسهم على الواقع. يمثل كل منهم قلقا مختلفا متأصلا في الحياة المعاصرة، من الفقر والهجر (الجوكر)، ومن الانتهاك والصدمة (ماليفيسنت)، ومن الاستغلال الرأسمالي والانهيار الأخلاقي (زاحف الليل)، ومن العشوائية والرعب الوجودي (لا مكان للعجائز).
لم تعد السينما تكتفي بأشرار يهددون البطل فحسب، بل تستخدمهم لكشف الآليات الخفية للمجتمع من ضغوط، وإخفاقات، وتناقضات تشكل حياة القرن الحادي والعشرين. والشخص الشرير هو تجسيد للقوى التي نخشى أننا لا نستطيع السيطرة عليها.
لا يعد تزايد هيمنة المنطقة الرمادية الأخلاقية مجرد اتجاه فني، بل هو توجه فلسفي يتبناه صناع الأفلام، وكذلك الأستوديوهات والمنصات التي تمولهم. بالنسبة للمبدعين المعاصرين، لا يمثل الغموض نقطة ضعف في سرد القصص، بل هو جوهر الحقيقة الإنسانية. لم تعد الثنائيات القديمة للفضيلة والرذيلة كافية لوصف عالم تشكل بفعل التشرذم السياسي، والهشاشة الاقتصادية، وعدم الاستقرار النفسي. تصبح المنطقة الرمادية مساحة يُسمح فيها للشخصيات أن تكون متناقضة، ومندفعة، ومتضررة، أو فاسدة، دون أن تختزل إلى مجرد رموز. إنها اعتراف سينمائي بأن الأفراد نتاج أنظمة وتاريخ وضغوط أكبر بكثير من ذواتهم.
بالنسبة للأستوديوهات والمنصات العالمية، يخدم هذا الغموض وظيفة أخرى، وهي توسيع نطاق السوق. تنتشر الروايات ذات الطابع الأخلاقي المعقد بشكل أفضل، وتتفاعل مع مختلف الثقافات، وتتجنب الجمود الأيديولوجي الذي كان يميز هوليود في الماضي. في صناعة سينمائية معولمة، تعد القصص المتجذرة في الأخلاق الرمادية أكثر أمانا، فهي أقل عرضة للتنفير، وأكثر ميلا للإثارة. وهكذا، يصبح الغموض فلسفة إبداعية وإستراتيجية تجارية في آن واحد. والنتيجة هي روح سينمائية جديدة لا تقوم على الحكم على الشخصيات، بل على كشف خباياها، والتعايش مع التوتر الأخلاقي.
إعلان
إقرأ المزيد


