الجزيرة.نت - 12/30/2025 11:53:48 PM - GMT (+3 )
في ظل اقتراب فنزويلا والولايات المتحدة من شفا الحرب، لم تتوانَ الصين عن إدانة التصرفات الأميركية علنا. فبحسب رؤية بكين، فإن تصعيد واشنطن- والذي يشمل احتجاز ناقلات نفط فنزويلية، وضرب زوارق يشتبه في تهريبها المخدرات، وفرض حصار بحري قبالة السواحل الفنزويلية- يُعد مثالا كلاسيكيا على الأحادية الأميركية، وانتهاكا لسيادة دولة أخرى، وتعديا صريحا على ميثاق الأمم المتحدة.
خلال اتصال هاتفي أجراه وزير الخارجية الصيني وانغ يي مع نظيره الفنزويلي في 17 ديسمبر/كانون الأول، عبر وانغ عن رفضه ما وصفه بـ"البلطجة الأحادية" من قبل الولايات المتحدة، وأكد دعمه لـ"حق فنزويلا في الدفاع عن سيادتها وكرامتها الوطنية".
ورغم هذا الموقف الخطابي الصارم، فإن بكين لم تُقدم أي دعم ملموس لكاراكاس. وهو ما يعكس حذر الصين من الانجرار إلى فخ جيوسياسي، ويُظهر في ذات الوقت حدود نفوذها في أميركا اللاتينية.
انخراط الصين في أميركا اللاتينيةطيلة أكثر من عقدين، سعت الصين إلى توسيع علاقاتها الاقتصادية مع بلدان أميركا اللاتينية. ونتيجة لذلك، أصبحت اليوم الشريك التجاري الأكبر لدول أميركا الجنوبية، كما تحتل المرتبة الثانية في التبادل التجاري مع المكسيك، كواحدة من أوثق حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.
ويُعزى هذا الانخراط الصيني إلى درجة عالية من التكامل الاقتصادي بين الطرفين. فقد ساهمت السلع الزراعية، خصوصا فول الصويا من البرازيل، والأرجنتين، وأوروغواي، في تعزيز الأمن الغذائي الصيني، لا سيما خلال فترة الحرب التجارية مع الولايات المتحدة.
في المقابل، أصبحت المعادن مثل كربونات الليثيوم المستخرجة من تشيلي، والأرجنتين، وبوليفيا عناصر لا غنى عنها لصناعة السيارات الكهربائية الصينية سريعة النمو.
وقد شهدت صادرات السيارات الكهربائية الصينية إلى أميركا اللاتينية نموا كبيرا في السنوات الأخيرة، بنسبة زيادة بلغت 55% خلال عام 2023 وحده.
إعلان
ولم تكتفِ المنطقة بتخفيف مشكلة الطاقة الإنتاجية الزائدة لدى الصين، بل وفرت أيضا سوقا لتكنولوجيا الاتصالات الصينية، مثل معدات شبكة الجيل الخامس (5G) من شركة هواوي- التي لطالما قوبلت بالرفض في الدول الغربية. واليوم، أصبحت معدات هواوي منتشرة في معظم دول أميركا اللاتينية.
وبما أن الولايات المتحدة تنظر تقليديا إلى أميركا اللاتينية باعتبارها ساحة نفوذها الخلفية، فقد استقبلت تنامي النفوذ الصيني في المنطقة بشكوك وعداء متزايدين.
ففي فبراير/شباط، أطلق وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو- المعروف بموقفه المتشدد تجاه الصين، والذي سبق أن وصف الحزب الشيوعي الصيني بأنه "نظام شرير يرتكب إبادة جماعية"- حملة دبلوماسية واسعة في المنطقة، معلنا أنه جاء "للتصدي لنفوذ الحزب الشيوعي الصيني في نصف الكرة الغربي"، وسعى لإقناع عدد من دول أميركا اللاتينية بتقليص علاقاتها مع بكين.
ورغم أن واشنطن لم تستطع تقديم بديل اقتصادي جذاب للتعاون مع الصين، واختارت بدلا من ذلك سياسة الضغط عبر الرسوم الجمركية، فإنها لا تزال تحتفظ بيد عليا في معركة النفوذ.
أي تغيير في النظام الفنزويلي سيكون له انعكاسات سلبية على مصالح الصين. فبصفتها الزبون الأكبر للنفط الخام الفنزويلي، تملك بكين مصلحة مباشرة في الحفاظ على السلام والاستقرار في البلاد
فعلى سبيل المثال، ورغم أن معظم دول المنطقة قبلت الالتزام بسياسة "الصين الواحدة"- التي تعني الاعتراف بتايوان كجزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية- فإن أميركا اللاتينية لا تزال تُعد آخر حصن دبلوماسي داعم لتايوان، إذ تحتفظ سبع دول في المنطقة بعلاقات دبلوماسية رسمية مع تايبيه بدلا من بكين.
وقد حققت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي انتصارا سياسيا لافتا، حين فاز المحافظ نصري عصفورة- المدعوم من ترامب – في الانتخابات الرئاسية في هندوراس، وكان قد تعهد خلال حملته الانتخابية بقطع العلاقات مع الصين، واستئناف العلاقات الرسمية مع تايوان.
وخلال العام الماضي، وتحت ضغوط إدارة ترامب، رضخت عدة دول لاتينية للمطالب الأميركية بالحد من علاقاتها الاقتصادية مع الصين.
ففي فبراير/شباط، أعلنت بنما رسميا انسحابها من مبادرة الحزام والطريق الصينية. وفي مارس/آذار، أعلنت الشركة المشغلة لقناة بنما -ومقرها هونغ كونغ- عن بيع معظم حصصها إلى تحالف من الشركات الأميركية، وذلك في أعقاب تصريحات ترامب بأن هذا الممر المائي الحيوي "تحت سيطرة الصين".
وفي ديسمبر/كانون الأول، كشفت المكسيك عن نيتها فرض رسوم جمركية تصل إلى 50% على السلع الصينية بدءا من الأول من يناير/كانون الثاني 2026.
أما في حالة فنزويلا، فلا يرتبط الضغط الأميركي بقوة علاقاتها مع الصين، بقدر ما يتعلق بسياسات واشنطن الداخلية؛ فماركو روبيو يسعى إلى تحقيق أجندة سياسية طويلة الأمد تُرضي الجاليات الفنزويلية والكوبية المعارضة في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن أي تغيير في النظام الفنزويلي سيكون له انعكاسات سلبية على مصالح الصين. فبصفتها الزبون الأكبر للنفط الخام الفنزويلي، تملك بكين مصلحة مباشرة في الحفاظ على السلام والاستقرار في البلاد.
صحيح أن الصين لا تعتمد اعتمادا حاسما على النفط الفنزويلي- إذ لا تحتل فنزويلا موقعا ضمن أكبر عشرة موردين للنفط إلى الصين- إلا أن اعتراض الولايات المتحدة ناقلات النفط الفنزويلية يُقوض إستراتيجية الصين في مجال الطاقة، والتي تقوم على تنويع مصادر الإمداد، وتجنب الاعتماد المفرط على أي مزود واحد.
عقيدة مونرو الجديدة أم فخ جيوسياسي؟رغم دعمها الخطابي، لا تُظهر الصين استعدادا فعليا لتقديم دعم حقيقي لفنزويلا، ما يعكس حدود نفوذها في أميركا اللاتينية
تنظر الصين إلى التصعيد في فنزويلا من زاوية لا تقتصر على المصالح الاقتصادية فحسب، بل تشمل أبعادا جيوسياسية أوسع، ترتبط بنمط الولايات المتحدة في بسط نفوذها على الصعيد العالمي.
إعلان
في "إستراتيجية الأمن القومي" الجديدة التي أصدرتها إدارة ترامب مؤخرا، تم التأكيد على أن "عهد قيام الولايات المتحدة بدور شرطي العالم قد ولى"، وأن واشنطن تسعى للعودة إلى مبادئ "عقيدة مونرو"، وهي إستراتيجية تعود إلى القرن التاسع عشر، هدفت إلى منع أي تدخل خارجي في شؤون الأميركتين يُهدد مصالح الولايات المتحدة.
ورغم أن هذه الوثيقة لم تصف الصين بأنها التهديد الأكبر للولايات المتحدة، فإنها شددت على ضرورة امتلاك القوات المسلحة الأميركية القدرة على ردع الطموحات الصينية تجاه تايوان بالقوة العسكرية إذا لزم الأمر.
وقد أرسلت هذه الوثيقة، بالتزامن مع تصاعد التوتر مع فنزويلا، إشارات متضاربة إلى بكين. فمن جهة، يبدو أن الولايات المتحدة تقلل من أهمية المنافسة مع الصين، وتركز بدلا من ذلك على ترسيخ هيمنتها في نصف الكرة الغربي.
لكن من جهة أخرى، لم تتخذ واشنطن أي خطوات فعلية تُشير إلى تقليص انخراطها في منطقة آسيا. فعلى سبيل المثال، لا تزال قواعدها العسكرية في كوريا الجنوبية واليابان تعمل بكامل طاقتها.
وتخشى بكين من أن تكون واشنطن تحاول خداعها، عبر خطاب يوحي بتحول إستراتيجي وهمي، مما يدفع الصين إلى حالة من الاطمئنان الزائف. ولهذا تبقى الصين حذرة.
وبعد صدور الوثيقة الأميركية، نشرت الصين ورقة سياسات خاصة بأميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي. ويُرجح أن هذه الوثيقة جاءت ردا مباشرا على المستجدات الأخيرة، وتعكس محاولة من بكين لنقل المواجهة إلى "الفناء الخلفي" للولايات المتحدة.
لكن السياسات والإستراتيجيات المعلنة في الوثيقة تعاني من نفس نقاط الضعف التي لطالما اتسمت بها السياسة الخارجية الصينية: فهي تقدم دعما رمزيا أكثر منه فعليا. كما أن محاولة الصين حشد دول الجنوب العالمي تحت راية "مناهضة الهيمنة الأميركية"، وتغذية روح التذمر المشترك، تفتقر إلى الفاعلية حين توضع في مواجهة القوة العسكرية الأميركية الصلبة.
وفي هذا السياق، ومع أخذ الأهمية الاقتصادية المحدودة لفنزويلا بالنسبة للصين، وبعدها الجغرافي الكبير عنها، لا يبدو أن بكين مستعدة لتخصيص أي موارد حقيقية للدفاع عن هذا البلد اللاتيني.
وفي حال وقوع غزو أميركي لفنزويلا، من المرجح أن تستغل الصين الحدث للترويج لرؤيتها حول عالم متعدد الأقطاب، وتقدم نفسها على أنها المدافع عن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. وبالرغم من أنها قد تعتبر تورط واشنطن في حرب طويلة أمرا يصب في مصلحتها، فإنه من المؤكد أنها لن تتدخل لإنقاذ فنزويلا.
لكن الإطاحة الأميركية بالحكومة الفنزويلية ستكشف حينها حدود القوة الصينية في المنطقة، وستدفع العديد من دول أميركا اللاتينية إلى إعادة التفكير في مدى جدوى الاصطفاف مع الصين، ما دامت الولايات المتحدة العدوانية قريبة جدا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
إقرأ المزيد


