حين تكلمت الكرة عما عجزت عنه السياسة
الجزيرة.نت -

لم تكن بطولة كأس العرب 2025 في الدوحة مجرد حدث رياضي عابر، بل لحظة دالة تتوهج بالرمزية، حيث يلتقي الحلم الدفين مع عمق المأزق العربي الراهن.

جاءت في زمن تتكاثف فيه التحديات، وتتعاظم الأسئلة الوجودية، وتستنزف فيه المجتمعات العربية بين صراعات الداخل وضغوط الخارج، فتبدو الساحات السياسية، كما لو أنها عاجزة عن رسم أفق جماعي واضح.

ما جرى في الملاعب لم يكن منعزلا عن نبض العواصم، ولا عن القلق العميق الذي يسكن وجدان الجماهير ونخبها الصادقة. فقد جسدت البطولة مرآة مكثفة لواقع عربي تتصارع داخله الإرادات، وتتنازعه القوى، مع بقاء شعلة الرغبة الجماعية في استعادة معنى جامع حيةً في القلوب، أفقا تاريخيا يعيد للكرامة والعزة والسيادة مكانتها المستحقة.

لقد كانت البطولة رسالة واضحة: أمة عربية مثقلة بالضغوط والتحديات، لكنها لم تفقد وعيها بتاريخها، ولم تنسَ أنها أمة تركت بصماتها العميقة في مسار الحضارة الإنسانية على مدى قرون طويلة.

ففي المدرجات، وبين الهتافات ورفرفة الأعلام، ظهر أن الانتماء المشترك لم يمت، بل ينتظر من يملك الشجاعة والإرادة ليحوله من شعور مؤقت إلى مشروع حقيقي يعيد صياغة المستقبل العربي.

في المدرجات، حيث تلاشت الحدود السياسية مؤقتا، اجتمعت جماهير من المحيط إلى الخليج، لا يوحدها خطاب سياسي ولا برنامج أيديولوجي، بل شعور وجداني عميق بأن ما تفرق في الواقع يمكن أن يلتقي في الرمز.

هناك، حيث رفرفت الأعلام جنبا إلى جنب دون صراع، بدا جليا أن الشعوب العربية لم تفقد حلمها الوحدوي، لكنها فقدت فقط الفضاءات التي يسمح لها فيها أن تحلم معا، بحرية وصدق. فجاءت البطولة لتفتح تلك النافذة الرمزية، مانحة الجماهير مساحة نادرة للتلاقي الوجداني واستعادة الإحساس بالانتماء المشترك، ولو لزمن مؤقت، وكأنها تذكير صامت بأن الحلم ما زال حيا، وإن ضاقت به الساحات السياسية.

لم تكن الدوحة مجرد مدينة مضيفة للبطولة، بل تحولت إلى "دوحة العرب" الحقيقية، ساحة رمزية لإعادة صياغة الدور العربي في العالم، ومجال اختبار للقدرة على صناعة المعنى الإستراتيجي

البطولة التي تتحدث بصمت السياسة

بطولة العرب 2025 في الدوحة لم تكن مجرد مباراة على العشب الأخضر، بل كانت مرآة مكثفة للواقع العربي: انعكاسا للقدرة الهائلة على التلاقي الشعبي، مقابل عجز مستمر للقرار السياسي عن تحويل هذا التلاقي إلى مشروع إستراتيجي مشترك.

إعلان

في المدرجات، رأينا شعوبا تتشابك عيونها بالهتاف، وقلوبها بالمشاعر، وأصواتها بالأمل، بينما على طاولة السياسة كانت الإرادات تتصارع وتتحطم بين مصالح ضيقة، وأجندات خارجية تستثمر ضعف الداخل.

يعيش العرب اليوم تحت وطأة حصار متعدد الوجوه، يبدأ من الداخل قبل أن يمتد إلى الخارج. حصار تصنعه انقسامات عميقة تشق الجغرافيا والوجدان معا، بين دول ومناطق ومكونات مجتمعية أنهكتها الصراعات وتآكلت بينها جسور الثقة. وتفاقمه أزمات تنموية خانقة حولت البنية الاقتصادية والاجتماعية إلى فضاء هش، عاجز عن إنتاج الأمل أو تأمين الحد الأدنى من العدالة والكرامة.

وفي قلب هذا المشهد، تتراجع الثقة بين الحاكم والمحكوم، حيث يشعر المواطن العربي بأنه لم يعد فاعلا في صناعة مستقبله، بل مجرد شاهد صامت على سياسات تصاغ بعيدا عنه، وغالبا على حسابه.

وفي موازاة هذا الوهن الداخلي، تتكثف الضغوط الخارجية وتزداد تعقيدا، مستثمرة هذا الفراغ العربي المزمن. أطماع قديمة تتجدد بأشكال جديدة، تسعى إلى مصادرة القرار السياسي والاقتصادي، وإحكام السيطرة على الموارد الحيوية من طاقة وغذاء، وإعادة ترتيب أولويات المنطقة بما يخدم مصالح الآخرين لا مصالح أهلها.

وبين شد الداخل وجذب الخارج، يتراكم في الوجدان العربي إحباط ثقيل وغضب مكبوت، يبحث عن أفق، وعن معنى، وعن لحظة تستعيد فيها الأمة ثقتها بذاتها وقدرتها على الفعل والتغيير.

البطولة كرسالة صامتة

في قلب واقع عربي معقد، جاءت بطولة العرب 2025 في الدوحة كصرخة صامتة، تكشف عما عجزت عنه السياسة لعقود: قدرة العرب على التلاقي رغم الانقسامات والضغوط الداخلية والخارجية. ما فصل الشعوب العربية اليوم ليس غياب الروابط التاريخية أو الثقافية، بل غياب الإرادة السياسية القادرة على تحويل هذه الروابط العاطفية والثقافية إلى قوة إستراتيجية تعيد صياغة المصالح، وتحمي الموارد، وتوجه المستقبل المشترك.

الجماهير العربية، بعفويتها وصدقها، عبرت بلا كلمات عن حقيقة مفادها أن الانتماء العربي لم يمت، بل جرى تهميشه، لكنه ظل حاضرا في كل هتاف، وكل دمعة فرح، وكل ابتسامة أمل.

وراء الهتاف والفرح، كان هناك وجع مكبوت وأمل مؤجل. فالجماهير تطالب بما هو أبسط وأعظم في آن واحد، تطالب بكرامة العيش وحماية الحقوق الأساسية، وبسيادة القرار الوطني والإقليمي، وبعدالة توزيع الخيرات الطبيعية التي تستحقها الشعوب، وبوحدة تحرر الإنسان وتصون الأرض والموارد، وبأفق مستدام للأجيال القادمة يعيد الثقة في المستقبل.

وفي المقابل، تدرك النخب الصادقة، التي لم تساوم على وعيها وضميرها، أن استعادة مكانة الأمة ليست شعارات جوفاء، بل مشروعا عمليا يبدأ ببناء الإنسان العربي المتعلم، المتمكن، والمشارك بوعي، ويمر بتحصين الدولة من الفساد والهشاشة وصون مؤسساتها الحيوية، ولا يكتمل إلا باستقلال القرار الاقتصادي والمعرفي بعيدا عن هيمنة الخارج، وإعادة الاعتبار للعمل العربي المشترك كضرورة وجودية، لا مجرد ترف ثقافي أو سياسي، ليصبح قاعدة للتنمية والأمن والاستقرار.

كانت الملاعب في الدوحة مختبرا رمزيا للواقع العربي الممكن. فقد عكس التنظيم المتقن القدرة على التخطيط الإستراتيجي، وأظهر التنافس الشريف أن النجاح لا يتحقق بالانتصار الفردي وحده، بل بالتعاون والاحترام المتبادل، كما قدم احترام القوانين والقواعد نموذجا للحوكمة الشفافة والمؤسساتية.

إعلان

ما تحقق على الملاعب، كما تظهر البطولة، يمكن أن يتحقق على أرض الواقع إذا توفرت الرؤية والإرادة السياسية والاجتماعية. إنها تذكير بأن الانتماء المشترك والفعالية الجماعية هما المفتاح لإعادة صياغة المستقبل العربي، وأن الموارد والقدرات موجودة، ما دامت هناك إرادة حقيقية للاستثمار في الإنسان والدولة والفضاء العربي الموحد.

ومن هذا المنظور، يمكن للبطولة أن تتحول إلى رمز للتحفيز الوطني والإقليمي، حيث تقدم الرياضة كنموذج للتعاون والتنافس الشريف القابل للترجمة في السياسة والاقتصاد والثقافة، وتبرز الجماهير العربية كمحرك للوعي والتغيير، يفرض على النخب والأنظمة استعادة الثقة والفاعلية، كما يمكن استثمار رمزية الانتماء المشترك لإطلاق مشاريع تنموية وإصلاحية تجمع بين الاستقرار والسيادة والكرامة.

بهذه الطريقة، تصبح البطولة أكثر من حدث رياضي؛ إنها خارطة رمزية للمستقبل العربي، حيث الكرة ليست مجرد لعبة، بل لغة سياسية وثقافية تكشف عن الإمكانات الخلاقة للأمة، وتذكر بأن الطريق نحو الكرامة والسيادة يبدأ بالعمل الجماعي والوعي المشترك.

السياسة في ملعب الرمزية

لم تكن الدوحة مجرد مدينة مضيفة للبطولة، بل تحولت إلى "دوحة العرب" الحقيقية، ساحة رمزية لإعادة صياغة الدور العربي في العالم، ومجال اختبار للقدرة على صناعة المعنى الإستراتيجي.

لقد قدمت تجربة الدوحة نموذجا عمليا مفاده أن العرب قادرون على النجاح والتميز حين يمتلكون القرار الحر، ويستثمرون في الإنسان، ويفهمون أن صورتهم في العالم جزء لا يتجزأ من سيادتهم ومكانتهم الدولية.

هذا النموذج لم يكن نظريا، بل تجسد في دقة التنظيم، وتفاصيل لحظات الافتتاح والاختتام، والرموز التي جرى توظيفها لتوصيل رسالة قوية مفادها القدرة على إعادة إنتاج المعنى السياسي والثقافي، وتحويل الرمزية إلى قوة فاعلة قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي يعاني منها العرب منذ عقود.

كل هتاف، وكل لوحة، وكل لحظة على الملاعب كانت رسالة صامتة بأن العرب قادرون على إنتاج سردية جماعية تعيد الاعتبار للكرامة، والسيادة، والأمل المشترك.

الدرس يتجاوز الرياضة بكثير: فالمواجهة الحقيقية ليست في الملاعب وحدها، بل في صراع السردية، والصورة، والمكانة في الوعي العالمي. من يملك القدرة على صياغة صورته أمام ذاته وأمام العالم، يمتلك مفتاح النفوذ والقوة الرمزية والقدرة على توجيه مستقبل الأمة على المستويين الداخلي والخارجي.

الدوحة، بهذا المعنى، لم تكن ملعبا لكرة القدم فقط، بل مختبرا رمزيا للمشروع العربي الممكن، حيث يمكن تحويل اللحظة الرمزية إلى إستراتيجية سياسية وثقافية تترجم الحلم المشترك إلى واقع ملموس.

البطولة كأفق وحدوي رمزي

لم تكن بطولة العرب 2025 في الدوحة مجرد حدث رياضي أو منافسة بين منتخبات، بل هي مرآة للروح العربية الجامحة وفضاء رمزي لإعادة تعريف الانتماء المشترك. صحيح أن البطولة لم توحد الدول العربية سياسيا، لكنها أعادت إحياء الوحدة الشعورية، وهي البذرة الأولى لأي وحدة أعمق وأكثر استدامة.

في المدرجات، وبين الهتافات ورفرفة الأعلام جنبا إلى جنب، ظهر أن الانتماء المشترك ما زال حيا في القلب الجماعي للأمة، رغم الانقسامات المؤسسية والسياسية، وهو تذكير بأن القوة الحقيقية للأمة تبدأ من مشاعرها الجماعية قبل أن تنتقل إلى المؤسسات والسياسات.

وفي هذا الفراغ المليء بالقلق والانتظار، جاءت البطولة لتكسر منطق العجز، لا بوصفها حدثا رياضيا فحسب، بل كرمز كثيف الدلالة أعاد طرح سؤال القوة والمعنى من زاوية مختلفة: كيف يمكن للرمز أن يتحول إلى أداة إستراتيجية؟

أثبتت البطولة أن الرموز الجماعية، من هتاف وعلم وانتماء وأغانٍ وطنية مشتركة، يمكن أن تتحول إلى قوة سياسية وثقافية ذات أبعاد إستراتيجية، لا باعتبارها شعورا عابرا، بل أرضية لصياغة سردية عربية مشتركة قادرة على تعزيز الثقة الداخلية بين الشعوب، وبناء حضور عربي مؤثر على المستوى الدولي، واستثمار الهويات الجماعية في التعليم والفنون والثقافة الرقمية لتعميق الشعور بالانتماء.

إعلان

كما أظهر التنظيم الممتاز والتخطيط الدقيق أن العرب قادرون على إدارة مشاريع ضخمة بكفاءة عالية، وأن المؤسسات القوية والحوكمة الرشيدة ليست رفاهية، بل شرطا لإعادة بناء الدولة والمجتمع، وأن البطولة مثلت مختبرا عمليا لإدارة الفعاليات الكبرى، بما يعكس القدرة على تحويل الرموز الجماعية إلى قوة تنفيذية قابلة للقياس والتأثير.

وما تحقق على الملاعب يمكن أن يتحول إلى خارطة طريق للتعاون الاقتصادي والإقليمي، حيث يمكن ترجمة اللحظات الشعورية المشتركة إلى مشاريع ملموسة تشمل الربط اللوجيستي بين الموانئ العربية، وتطوير الطاقة المتجددة بما يعزز الاستقلالية الاقتصادية، وتعزيز الأمن البحري والحدودي المشترك كضمان للاستقرار الإقليمي، إضافة إلى إطلاق مشاريع رقمية وثقافية توحد الجمهور العربي وتفتح آفاقا اقتصادية وثقافية جديدة.

وتؤكد البطولة أن الانتماء والهوية المشتركة ليسا مجرد شعور عابر، بل أدوات إستراتيجية يمكن استثمارها في السياسة والاقتصاد والدبلوماسية، بحيث توجه القرار السياسي وتعزز السيادة العربية، وتشكل منصة لفرض حضور عربي مؤثر في النظام الدولي، وتخلق خطابا موحدا يوازن بين القيم المحلية والمصالح العالمية بعيدا عن التبعيات الخارجية.

وإذا استطاعت الدول العربية تحويل هذه اللحظات الرمزية إلى مشاريع ملموسة تعليمية وثقافية وتكنولوجية واقتصادية وأمنية، يمكن أن تصبح بطولة واحدة نقطة انطلاق لعقد عربي جديد، يقوم على التعاون المشترك قاعدة لبناء مستقبل مستقر ومزدهر، وتتحول فيه الرموز الجماعية إلى أدوات قوة ناعمة قادرة على إعادة صياغة الهيمنة الثقافية والسياسية، ويُبنى المستقبل العربي على وحدة الشعور، وقوة المؤسسات، ومشاريع التنمية المشتركة، بما يفتح آفاقا حقيقية للكرامة والسيادة والازدهار من المحيط إلى الخليج.

البطولة كمرآة لمستقبل العرب

بطولة العرب 2025 لم تكن مجرد منافسة رياضية، بل هي درس حي في السياسة والثقافة والإستراتيجية، وتجربة رمزية عميقة تعكس ما يمكن أن يكون عليه المستقبل العربي.

لقد أظهرت البطولة أن القوة الحقيقية للأمة لا تكمن في الجيوسياسة أو الموارد وحدها، بل في القدرة على صياغة سردية مشتركة، وبناء وحدة شعورية، وتحويل الرموز إلى مشاريع ملموسة تحمي الكرامة والسيادة، وتعزز الثقة بين الشعوب والدول.

أكدت البطولة أن الروح الجماعية والانتماء المشترك لا يزالان حاضرين بقوة، رغم الانقسامات المؤسسية والسياسية، وأن الجماهير قادرة على الالتقاء حول الرموز المشتركة من الهتاف إلى رفرفة الأعلام.

كما أثبتت أن الرمزية الشعبية والثقافية يمكن تحويلها إلى قوة فعلية تستثمر في التعليم والتكنولوجيا والفنون والثقافة الرقمية، لتصبح أدوات نفوذ وسيادة سياسية.

وأظهرت أن اللحظات الشعورية في الملاعب يمكن أن تتحول إلى خارطة طريق للتعاون الاقتصادي والإقليمي، تشمل الربط اللوجيستي والطاقة المتجددة والأمن المشترك والمشاريع الرقمية، بما يترجم الانتماء المشترك إلى مشاريع ملموسة.

كما برهنت التجربة المؤسسية في الدوحة أن التنظيم الممتاز قادر على ترسيخ قناعة بأن المؤسسات القوية والحوكمة الرشيدة ليست ترفا، بل شرطا أساسيا لإعادة بناء الدولة والمجتمع. وإذا ما جرى استثمار هذه اللحظات الرمزية في مشاريع تعليمية وعلمية وتكنولوجية وثقافية واقتصادية، يمكن أن تتحول بطولة واحدة إلى نقطة انطلاق لعقد عربي جديد، يصبح فيه التعاون المشترك قاعدة لبناء مستقبل أكثر استقرارا وازدهارا من المحيط إلى الخليج.

بطولة العرب 2025 ليست نهاية الحكاية، بل بداية فصل جديد في تاريخ الأمة. الجماهير قالت كلمتها في المدرجات، والرهان الآن على النخب: فاستعادة كرامة الأمة وعزتها وسيادتها تبدأ من بناء معنى مشترك، وتحويل الرمزية إلى فعل مؤسسي وإستراتيجي.

فالأمة العربية، رغم كل التحديات والجراح، قادرة على كتابة فصلها القادم بيد شعوبها وعقول أبنائها، لا بأقدام لاعبيها فقط.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



إقرأ المزيد