إيران.. تصاعد هجرة الرساميل مع إطالة أمد الانكماش الاقتصادي
الجزيرة.نت -

Published On 19/12/2025

|

آخر تحديث: 20:06 (توقيت مكة)

شارِكْ

طهران– في وقت تكشف فيه المؤشرات الرسمية عن حجم التحديات التي طالما أثقلت كاهل الاقتصاد الإيراني وتداعياتها الممتدة، تتحول الهجرة العكسية لرؤوس الأموال إلى نزيف حقيقي يهدد البنية الإنتاجية، في حين يحذر خبراء من أن بيئة الاستثمار المولِّد تكاد تختفي عمليا، دافعة الرساميل نحو ملاذات أكثر أمانا خارج البلاد أو نحو قطاعات غير منتجة داخلها.

وفي ظل دخول البلاد مرحلة "لا حرب ولا سلم" عقب حرب يونيو/حزيران الماضي، وارتفاع مستويات المخاطرة مع عودة العقوبات الدولية إثر تفعيل آلية الزناد، تعرب الأوساط الاقتصادية عن مخاوفها من أن يصبح تراجع النشاط الاقتصادي واقعا ملموسا ما لم تشهد البيئة الكلية تحولا جذريا يعيد الثقة ويخلق تصورا واضحا لمسار المرحلة المقبلة.

في غضون ذلك، يكشف أحدث تقارير مركز أبحاث غرفة إيران للتجارة عن تراجع مؤشر مديري المشتريات إلى 46.6 نقطة في الشهر الإيراني المنصرم (23 أكتوبر/تشرين الأول حتى 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، للشهر الـ20 على التوالي، معتبرا ذلك دليلا على انكماش جميع الأعمال التجارية خلال الفترة المحددة.

تراجع المؤشرات

وأكد التقرير أن جميع المكونات الفرعية الرئيسية لمؤشر مديري المشتريات سجلت اتجاهات تنازلية، بما في ذلك كميات الإنتاج أو تقديم الخدمات، والطلبيات الجديدة من العملاء، ومبيعات السلع والخدمات، ومخزون المواد الأولية أو المشتريات، فضلا عن مستوى التوظيف واستخدام القوى العاملة.

ووفقا لتقرير غرفة إيران للتجارة، فإن مؤشر الإنتاج أو تقديم الخدمات استقر خلال الفترة ذاتها عند 48.4 نقطة، وبالرغم من أن وتيرة انخفاضه كانت أكثر اعتدالا مقارنة بالشهر السابق (23 سبتمبر/أيلول حتى 22 أكتوبر/تشرين الأول الماضيين)، فإنه بقي لأشهر متتالية دون منطقة الحياد البالغة 50 نقطة.

ويفيد مركز أبحاث غرفة إيران للتجارة في تقريره بأن ضعف الطلب يظهر بوضوح في مؤشر الطلبيات الجديدة من العملاء، الذي سجل 43.5 نقطة، مواصلا تراجعه للشهر الـ21 على التوالي. ويضيف التقرير أن هذه المؤشرات تعكس ضعفا شديدا في الطلب الكلي، مدفوعا بحالة عدم اليقين الاقتصادي، وزيادة وتقلب سعر الصرف، والتوسع التدريجي لمعدل التضخم نحو الأعلى، مما أدى إلى استمرار تآكل القوة الشرائية للمستهلكين.

إعلان

ويُعد مؤشر مديري المشتريات من بين المؤشرات التي تُحسب لإظهار ظروف إجمالي الاستثمار المولِّد وتطوير الأعمال التجارية في الدول، وفق صحيفة "اعتماد" الناطقة بالفارسية، التي أكدت أن نظرة الناشطين الاقتصاديين والتجاريين وتوقعاتهم للفترة الراهنة واستشرافهم لتطورات المستقبل تتجلى بوضوح في هذا المؤشر.

استمرار انكماش مؤشر مديري المشتريات دون مستوى الحياد يعكس شللا تدريجيا في النشاط الإنتاجي (غيتي)
هجرة الرساميل

وفي تقرير لها تحت عنوان "هجرة الرساميل من قطاع الإنتاج"، حذرت صحيفة "اعتماد" الإيرانية من "تداعيات خطيرة على مستقبل الاستثمار في البلاد"، معتبرة أن الاستقرار والتفاؤل بالمستقبل عنصران غير متوافرين اليوم في الاقتصاد الوطني، في حين أن طبيعة الاستثمار في قطاع الإنتاج طويل الأمد لا تشجع المستثمر على الدخول إلا إذا قيّم المستقبل على أنه منخفض المخاطر وقابل للتوقع.

وفي ظل الظروف التي يعيشها الاقتصاد الإيراني حاليا، يتجه رأس المال الباحث عن الأمان والربح –وفق الرئيس السابق لغرفة إيران للتجارة والصناعة حسين سلاح ورزي– إما نحو القطاعات غير المنتجة قصيرة الأجل داخل إيران، أو إلى البحث عن ملاذ خارجي أكثر استقرارا. ويضيف أن استمرار انكماش مؤشر مديري المشتريات يرجح احتمالات تصاعد هجرة رؤوس الأموال من الاقتصاد الإيراني.

وفي حديثه للجزيرة نت، يقول سلاح ورزي إن عديدا من الشركات الدولية والمستثمرين الأجانب غادروا إيران عقب الانسحاب الأميركي الأحادي عام 2018 من الاتفاق النووي، مضيفا أنه مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، قرر ما تبقى من المستثمرين الأجانب –لا سيما شركات صافولا السعودية، وماجد الفطيم الإماراتية، و"إي إل سي سي" الأوروبية– سحب رؤوس أموالهم من الاقتصاد الإيراني خلال العام الماضي.

أما بشأن أسباب عزوف الرساميل الإيرانية عن قطاع الإنتاج، فيوضح المتحدث نفسه أن الاقتصاد الإيراني يواجه تحديات عصيبة، تشمل العقوبات الاقتصادية، والضغوط السياسية على المبادلات المالية، وفقدان العملة الوطنية قيمتها بشكل مستمر، وتصاعد عجز الطاقة، وسياسة التسعير الإلزامي للسيطرة على قيمة الصرف، إلى جانب التهديدات الأمنية.

وتؤدي هذه العوامل مجتمعة إلى زيادة مجازفة الاستثمار في الإنتاج، وتشجع على توظيف الرساميل في القطاعات غير المولِّدة ذات العائد السريع والمخاطر الأقل وقابلية السيولة العالية، سواء في الداخل أو الخارج.

انتقال الأموال إلى القطاعات غير المنتجة يقلص الطاقة الإنتاجية ويضعف النمو المحتمل (الأوروبية)
سبل مبتكرة

وعن الكيفية التي تُهرَّب بها الرساميل الإيرانية إلى الخارج، تلخص صحيفة "تجارت نيوز" أبرز الأساليب المتعمدة خلال السنوات الماضية على النحو الآتي:

  • شراء العقارات في دول مثل تركيا والإمارات لإخراج رأس المال والحصول على إقامة أجنبية.
  • تسجيل شركات في دول أخرى، مثل سلطنة عُمان أو أرمينيا، كنطاق قانوني لتحويل الأموال والحصول على إقامة.
  • استخدام العملات المشفرة، كالبيتكوين، لتحويل الأموال وتجنب القيود.
  • الخروج الفعلي بالنقد الأجنبي عبر السفر المتكرر.
  • تحويل الثروة إلى أصول مادية قابلة للنقل والتخزين، كالمجوهرات والأعمال الفنية، ثم بيعها في الخارج.
استمرار النزيف

وفي ظل غياب تقارير رسمية حول حجم الرساميل المهاجرة من إيران، وتجنب عدد من خبراء الاقتصاد الإدلاء بتصريحات دقيقة بهذا الشأن، فإن صحيفة "تجارت نيوز" تكشف في تقرير بعنوان "التضخم والعقوبات وعدم الاستقرار.. ثالوث هجرة الرساميل" أن إجمالي الأموال التي غادرت الاقتصاد الإيراني خلال العقدين الماضيين تجاوز 170 مليار دولار.

إعلان

وفي تقرير نُشر بعد نحو شهر على حرب يونيو/حزيران الماضي، توضح الصحيفة أنه استنادا إلى إحصاءات المصرف المركزي الإيراني، فإن أرقام هجرة رؤوس الأموال تظهر استمرار مسار النزيف الطويل الأمد، مع تسارع وتيرته في الفترة الأخيرة، إذ سجل صافي حساب رأس المال الإيراني عجزا قياسيا بلغ 15.4 مليار دولار في النصف الأول من عام 2024، مما يشير إلى تصاعد حاد في رغبة المستثمرين والأفراد بنقل أموالهم إلى الخارج.

في المقابل، يرى الباحث الاقتصادي وعضو غرفة إيران للصناعة والتجارة زين العابدين هاشمي أن سلوك رأس المال قابل للتنبؤ إلى حد كبير، وأنه ليس مستغربا أن يصبح اتخاذ قرار الاستثمار في مشاريع طويلة الأمد أمرا شبه مستحيل في بيئة يُنظر إليها على أنها محفوفة بالمخاطر، إذ إن انعدام الاستقرار ينتزع القدرة على التخطيط والتنبؤ بالمستقبل، مما يؤدي إلى توقف الاستثمار الجديد وانخفاض القدرة الإنتاجية.

تحرير سعر الصرف يظل شرطا أساسيا لإعادة بناء الثقة واستعادة الاستثمار الإنتاجي بحسب مراقبين (الأوروبية)
سبل المعالجة

وفي حديثه للجزيرة نت، يصف هاشمي مسار معالجة الوتيرة الراهنة بأنه ممكن من خلال خلق التفاؤل في الاقتصاد، وخفض التوتر في السياسة الخارجية، وتعديل السياسات الاقتصادية، لا سيما تحرير قيمة الصرف الأجنبي. ويؤكد أن الإحصاءات المتاحة تظهر تعمق الركود في قطاع الإنتاج نتيجة ضغوط السياسات الاقتصادية غير المستقرة وسياسات التحديد الإلزامي للأسعار، مما يفقد المنتجين القدرة على التخطيط للمديين المتوسط والبعيد.

ويحدد هاشمي سياسة تثبيت سعر الصرف وجعله إلزاميا على الناشطين الاقتصاديين باعتبارها إحدى أكثر المشكلات الجذرية في قطاع الإنتاج، مضيفا أن تحديد السعر دون مراعاة التكاليف الفعلية، وسعر الصرف في السوق السوداء لشراء المواد الأولية، وتراجع الطلب، يلغي عمليا هامش الربح، ويضع المنتج أمام خيارين: الاستمرار في نشاط خاسر أو الخروج من السوق.

وفي حين ينتقد هاشمي "التغيرات المفاجئة في السياسات التجارية وإصدار تعليمات لحظية" من شأنها تعطيل الأعمال وتقويض الثقة، يختم حديثه بالمطالبة بإصلاحات داخلية جذرية، في مقدمتها تحرير سعر الصرف كحل رئيسي للخروج من المأزق، بما يتيح للمنتج تحديد الأسعار استنادا إلى التكلفة الحقيقية.



إقرأ المزيد