عمل النساء من المنزل راحة أم عزلة؟
الجزيرة.نت -

Published On 19/12/2025

|

آخر تحديث: 18:26 (توقيت مكة)

شارِكْ

منذ أن اجتاحت جائحة كورونا العالم وفرضت على ملايين الموظفين تجربة العمل من المنزل، تغيّر شكل سوق العمل على نحو غير مسبوق. وكانت النساء من أكثر الفئات تأثرا بهذا التحول، إذ وجدن أنفسهن أمام واقع جديد يجمع بين المرونة والراحة من جهة، ويخلق تحديات نفسية ومهنية واجتماعية من جهة أخرى. فهل يعزز العمل عن بعد حضور المرأة المهني وقدرتها على التنظيم؟ أم يعزلها ويضعف فرصها في التقدم الوظيفي؟

مرونة مغرية.. ولكن ليست بلا ثمن

في مراحله الأولى، بدا العمل من المنزل خيارا مثاليا لكثير من النساء، إذ أظهرت استطلاعات أجراها مركز بيو للأبحاث أن نسبة كبيرة منهن شعرن بقدرة أكبر على التحكم في الوقت وتنظيم إيقاع الحياة اليومية. كما أتاح هذا النمط للأمهات فرصة التوفيق بين المسؤوليات الأسرية ومتطلبات العمل بدون شعور دائم بالتقصير، في حين ساعد هدوء المنزل بعضهن على تعزيز التركيز وتحسين جودة الإنتاج مقارنة بأجواء المكاتب التقليدية.

اقرأ أيضا list of 2 itemsend of list

غير أن هذه المرونة لم تكن دائما سهلة المنال. فغياب الحدود الواضحة بين العمل والحياة الخاصة حوّل هذا الامتياز، في كثير من الحالات، إلى عبء إضافي. وتوضح أماني، المقيمة في لندن وتعمل في مجال التسويق، والتي تزور مقر شركتها مرة واحدة أسبوعيا: "تساعدني هذه المرونة على الموازنة بين المنزل والعمل، لكنني أحيانا أخصص وقتا أطول لشؤون البيت، مثل توصيل أطفالي أو تحضير الطعام، وهو ما ينعكس على قدرتي على إنجاز أهدافي اليومية في العمل".

ضريبة العمل من البيت

مع الانتقال إلى العمل عن بُعد، افتقد كثير من النساء تفاصيل المشهد المهني اليومي: المكتب، الزملاء، النقاشات العفوية، ولحظات النجاح المشتركة. وهذه العناصر الصغيرة تلعب دورا مهما في بناء الهوية المهنية وتعزيز الشعور بالانتماء.

غياب التفاعل الإنساني

وفق تحليل نشرته "هارفرد بيزنس ريفيو"، يقلل غياب الوجود الجسدي من فرص بناء علاقات مهنية قوية، إذ لا تستطيع الرسائل الإلكترونية والاجتماعات الافتراضية نقل الحضور الإنساني أو "الكاريزما المهنية" التي تخلقها اللقاءات المباشرة.

إعلان

تراجع الشعور بالانتماء

الهوية المهنية ليست مجرد مهام تنجز، بل قصة مشتركة تبنى مع الآخرين. ومن خلف الشاشة، تصبح كتابة هذه القصة أكثر صعوبة.

تشوش الحدود بين الحياة والعمل

يتحول المنزل إلى مكتب، والمكتب إلى منزل، ما قد يضع المرأة في حالة عمل مستمرة تؤدي إلى إرهاق ذهني وتشتت نفسي.

يتحول المنزل إلى مكتب، والمكتب إلى منزل، ما قد يضع المرأة في حالة عمل مستمرة تؤدي إلى إرهاق ذهني (شترستوك)
بينما ينجح الرجال تخفق النساء!

كشفت دراسة مشتركة لجامعتي شيفيلد ودورهام، أعدتها الباحثة مينغان شين والدكتورة إفبراكسيا زاماني، أن النساء العاملات من المنزل يواجهن صعوبة أكبر من الرجال في رسم حدود واضحة بين المسؤوليات العائلية والوظيفية. فالمشتتات المنزلية، وتوقعات الأدوار التقليدية، ترفع مستويات التوتر وتزيد تداخل الأدوار.

في المقابل، أفاد الرجال بقدرتهم الأكبر على الفصل بين العمل والأسرة أثناء العمل من المنزل. وترى الدراسة أن العمل عن بعد يمكن أن يكون أداة فعالة لتمكين النساء، شرط تحقيق توزيع عادل للمهام المنزلية.

عندما يصبح العمل عن بعد حماية من التمييز

على الرغم من التحديات، أظهر العمل من المنزل جانبا إيجابيا لافتا فيما يتعلق بالتمييز القائم على النوع الاجتماعي. فقد كشفت دراسة لجامعة تورنتو (ديسمبر/كانون الأول 2024) عن انخفاض ملحوظ في نسب التمييز ضد النساء العاملات عن بعد مقارنة بزميلاتهن في بيئات العمل الحضورية.

وأفادت 31% من النساء العاملات حضوريا بتعرضهن لشكل من أشكال التمييز، مقابل 17% فقط بين العاملات عن بعد. ويعكس هذا الفارق دور البيئة المكانية في الحد من السلوكيات التمييزية. ومع ذلك، يحذر الباحثون من اعتبار العمل الرقمي حلا نهائيا، إذ تبقى العوائق الهيكلية داخل سوق العمل قائمة.

الثقة بالنفس وفرص الترقي

من الناحية النفسية، تشير أبحاث الجمعية الأميركية لعلم النفس إلى أن انخفاض التفاعل الاجتماعي في بيئات العمل الافتراضية قد يضعف الثقة بالنفس ويقلل الشعور بالإنجاز لدى بعض النساء، خاصة في القطاعات التي يعانين فيها أصلا من تمثيل محدود. فغياب التقدير المباشر يجعل الجهود أقل وضوحا، ما ينعكس سلبا على الصحة النفسية على المدى الطويل.

تروي دعاء من برمنغهام أنها تفضل العمل من المنزل لأنه يوفر لها مساحة آمنة، قائلة: "لا أشعر بالراحة في طرح اقتراحات خلال اجتماعات زووم، وثقتي بنفسي ليست كبيرة، لذا أفضل الاستماع أكثر".

في المقابل، تشير تقارير شركة ماكنزي آند كومباني إلى تراجع فرص ترقية النساء العاملات عن بعد مقارنة بزميلاتهن الحاضرات في مقار العمل، إذ لا يزال كثير من القرارات الإدارية تعتمد على الحضور المرئي والمشاركة اليومية.

تجربة متعددة الأوجه

بين الراحة والعزلة، وبين المرونة والتشتت، يكشف العمل من المنزل عن تجربة غنية ومعقدة للنساء. فهو يفتح أبوابا جديدة للحرية والتنظيم، لكنه يفرض تحديات تتعلق بالظهور المهني، والتوازن النفسي، والعدالة في توزيع الأدوار. وفي النهاية، لا يتوقف نجاح هذا النموذج على مكان العمل فحسب، بل على قدرتنا على بناء بيئة عادلة ومرنة تدعم النساء، سواء كن يعملن من خلف شاشة في المنزل أو داخل مكتب تقليدي.

إعلان



إقرأ المزيد