ولادة مقاومة جديدة في تونس
الجزيرة.نت -

تعيش تونس منذ إعلان الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو/تموز 2021 مسارا سياسيا يتجه نحو الانسداد والتآكل الداخلي. فقد تراجعت الحاضنة الشعبية التي رافقت قرارات الرئيس قيس سعيد في بداياته، وانقلب التفويض الواسع الذي حصل عليه إلى حالة من اللامبالاة والانسحاب من الشأن العام.

لم يعد الصمت الشعبي يُقرأ بوصفه دعما للسلطة، بل أصبح مؤشرا على الإحباط وفقدان الثقة في قدرة المنظومة الحالية على معالجة أزمات البلاد.

وبقدر ما حاول سعيد نزع الشرعية عن الأحزاب والأجسام الوسيطة ليكون المخاطب الوحيد للشعب، بقدر ما ساهم هذا النهج في تعميق القطيعة بين السلطة والمجتمع، حتى أصبحت الهوة واسعة بين المواطن والفاعلين السياسيين جميعا، بمن فيهم رئيس الجمهورية نفسه.

ديناميات تراجع النظام من الداخل

إلى جانب ضعف الشرعية الشعبية، تقلصت الدائرة السياسية المحيطة بالرئيس، وتحولت إلى تحالفات ظرفية تجمعها الاعتبارات الإقصائية أكثر من أي رؤية سياسية، أو مشروع إصلاحي.

ومن المفارقات أن جزءا مهما من هذا الاصطفاف ينتمي إلى اليسار الاستئصالي الذي لم يرَ في سعيد أي تقاطع فكري عند انتخابه سنة 2019، لكنه التحق بمساره بدافع صراع الهوية ورغبة في تصفية الخصوم التقليديين.

هذا النمط من التحالفات جعل النظام قائما على دعم سريع الذوبان عند أول اختبار، خاصة في ظل غياب إنجازات ملموسة. كما أدى التخبط الإداري وتواتر الإقالات إلى حالة من الامتعاض داخل الجهاز البيروقراطي، وبدأت أصوات نقدية داخل البرلمان الموالي تعكس بداية تفكك في الحزام السياسي للرئيس.

أوروبا وإيطاليا، تتعاملان مع الملف التونسي بمنطق نفعي بحت يجعل الحد من الهجرة غير النظامية أولوية تتفوق على الاعتبارات الديمقراطية وحقوق الإنسان

رفض يتسع خارج الأطر التقليدية

في مقابل تراجع مؤشرات القوة لدى السلطة، تتوسع الاحتجاجات الاجتماعية في بعض القطاعات (التعليم، الصحة)، وفي بعض المناطق الداخلية بوتيرة ثابتة، تعكس فقدانا متزايدا للثقة في الدولة ورفضا لأداء السلطة الحالية.

ورغم أن هذه التحركات تبدو مطلبية في ظاهرها، فإنها تعبر في عمقها عن تحول أوسع في علاقة المواطن بالسياسة، وهو تحول تؤكده نسب المشاركة الانتخابية الضعيفة التي سجلت أدنى مستوياتها منذ الثورة.

إعلان

لم يعد العزوف مجرد إحجام عن التصويت، بل أصبح شكلا من أشكال الانسحاب من الشأن العام، تغذيه الأزمة الاقتصادية والمشهد السياسي المغلق الذي يمنع إمكانيات التأثير الفعلي.

وقد فاقم خيار الرئيس القاضي بإلغاء دور الأحزاب والأجسام الوسيطة، هذا الانفصال بين السلطة والمجتمع، إذ أدى خطاب "قتل السياسة" إلى عكس النتائج المرجوة، حيث ابتعد المواطن عن الأحزاب وعن الرئيس معا، وتحول إلى متابع صامت لا يرى في أي طرف قدرة على التغيير.

وبين احتجاجات اجتماعية بلا قيادة وعزوف سياسي بلا أفق، يجد النظام، حتى الآن، مجالا لامتصاص الغضب دون تكلفة كبيرة، فيما يتسع الرفض الشعبي في العمق، متخذا أشكالا غير مؤطرة وغير تقليدية.

استمرارية شكلية لنظام فقد شرعيته في الداخل

رغم التراجع الحاد في الحاضنة الشعبية للرئيس قيس سعيد وتآكل شرعيته الانتخابية والسياسية، لا يزال السياق الإقليمي والدولي يوفر للنظام قدرا من الاستمرارية الشكلية التي تُطيل عمره دون أن تمنحه قاعدة صلبة في الداخل.

فالجزائر، انطلاقا من حسابات أمنية معقدة، تنظر إلى تونس باعتبارها عمقا إستراتيجيا لا يحتمل الفراغ أو الاضطراب، ولذلك تفضل التعامل مع سلطة مركزية مستقرة وإن كانت محل جدل شعبي على مواجهة سيناريوهات انتقال سياسي غير مضمون قد ينعكس على أمنها الداخلي، وعلى توازناتها الإقليمية مع المغرب وليبيا.

وفي هذا الإطار، تحولت تونس إلى جزء من منظومة استقرار إقليمي تديرها الجزائر بحسابات تتعلق بحدودها وبملفات الطاقة والأمن.

أما أوروبا وإيطاليا، فتتعاملان مع الملف التونسي بمنطق نفعي بحت يجعل الحد من الهجرة غير النظامية أولوية تتفوق على الاعتبارات الديمقراطية وحقوق الإنسان. فبما أن السلطة القائمة قادرة على لعب دور الحاجز أمام موجات العبور نحو الضفة الشمالية، فإن بروكسل وروما مستعدتان لتقديم دعم سياسي ومالي بصرف النظر عن طبيعة النظام، وعن وضع الحريات.

وهكذا، تحول النظام التونسي إلى شريك ظرفي في ملف الهجرة، رغم أنه لا يمتلك رؤية اقتصادية ولا سياسية تعالج جذور الأزمة.

وتزداد المفارقة وضوحا حين يُلاحظ أن النظام الذي يرفع خطابا دائما يتهم فيه المعارضة بـ"التآمر مع الخارج" و"الولاء للقوى الأجنبية"، يجد نفسه بعد أربع سنوات من انقلابه أكثر الأطراف اعتمادا على الدعم الخارجي للبقاء، في وقت تتآكل فيه قاعدته الاجتماعية والانتخابية، ويتوسع الاصطفاف المعارض ضده.

فبين نظام يستند إلى مساندة إقليمية ودولية لا تمنحه شرعية، ومعارضة تتقدم في الشارع وتستعيد مساحتها الطبيعية، تبدو استمرارية السلطة أقرب إلى استمرارية مُدارة من الخارج منها إلى استقرار نابع من الداخل.

ولادة موجة مقاومة جديدة

شهدت الأسابيع الأخيرة انتقال المعارضة التونسية إلى مستوى جديد من المقاومة المدنية، حيث امتد النضال من الشارع إلى داخل السجون عبر إضرابات جوع خاضها عدد من أبرز سجناء الرأي، من بينهم جوهر بن مبارك، رضا بلحاج، عصام الشابي، عبدالحميد الجلاصي، وراشد الغنوشي.

كشفت هذه الإضرابات حجم الانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون وحرمانهم من محاكمات عادلة، ومنحت المعركة من أجل الحريات بعدا حقوقيا وإنسانيا أثر بعمق في صورة النظام داخليا وخارجيا، ورسخ أن المقاومة لم تعد مقتصرة على الفضاء العام، بل أصبحت معركة تُخاض من داخل الزنازين كما تُخاض في الساحات.

إعلان

وتزامن هذا النضال الداخلي مع توسع التحركات السياسية في الشارع، حيث برز للمرة الأولى مطلب إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين دون استثناء أو تمييز.

وقد شاركت في هذه الوقفات والمسيرات شخصيات سياسية من اتجاهات مختلفة، بما كشف عن بداية تجاوز للانقسامات التقليدية بين المعارضات، وتشكل وعي سياسي جديد يقوم على المشتركات الحقوقية والديمقراطية.

هذا التلاقي بين نضال السجون وحراك الشارع أعاد السياسة إلى الفضاء العمومي، وأعاد المعارضة إلى مسرح الفعل بعد سنوات من التشتت والعجز.

وبلغ هذا المسار ذروته يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني، حين نجحت المعارضة المدنية والسياسية لأول مرة في تنظيم مسيرة موحدة تحت شعار جامع هو "ضد الظلم"، مثلت هذه المسيرة نقطة تحول مفصلية في ميزان القوى؛ لأنها كسرت حالة التشرذم التي راكمتها المعارضة لسنوات، ووضعت أطيافها المختلفة في صف واحد وعلى صعيد واحد أمام سلطة تتآكل حاضنتها.

وقد أعادت هذه المسيرة صياغة الشارع الديمقراطي في شكل أكثر صلابة وتنوعا من الصيغة التي عرفها حراك "مواطنون ضد الانقلاب" في 2021-2022، وأضافت إليه أفقا سياسيا جديدا يتجاوز اللحظة الراهنة نحو ما أصبح يُناقش اليوم بوضوح حول "اليوم التالي للانقلاب".

رغم هذا التقدم النوعي، ما يزال غياب البديل السياسي المتكامل عاملا مؤثرا في استمرار النظام، غير أن المعارضة بدأت اليوم تخطو لأول مرة خطوات فعلية ونوعية نحو تجاوز هذا النقص.

فبعد سنوات من التشتت، شرعت مختلف مكونات المعارضة، المدنية والسياسية، في العمل على صياغة مشروع سياسي جامع يقوم على مشتركات ديمقراطية واضحة، وعلى عرض سياسي يمنحها القدرة على استعادة ثقة الشارع، ولا سيما قواه الفاعلة والنخب المجتمعية التي تبحث عن إطار موحد يترجم مطالب الحرية والديمقراطية إلى بديل قابل للحياة.

في المنطقة الرمادية

لقد تحولت الأزمة التي تم استخدامها لتبرير الانقلاب إلى أزمة يصنعها النظام نفسه؛ فبدل أن يكون الرئيس مشروعا لإنقاذ الدولة، أصبح أحد أهم أسباب تعثرها.

تقف تونس اليوم في منطقة رمادية بين نظام يفقد تدريجيا مقومات الاستمرار الطويل، ومعارضة تبني نفسها وتستعيد حضورها في الشارع، ومجتمع يبحث عن أفق جديد بعد سنوات من الانسداد.

غير أن غياب مشروع وطني جامع يعيد بناء الثقة ويؤسس لمسار ديمقراطي متين يظل العقبة الكبرى أمام أي تغيير.

وإلى أن يتبلور مثل هذا المشروع القادر على جمع التونسيين حول رؤية مشتركة للدولة وللمستقبل، سيبقى المشهد معلقا بين سلطة بلا سند حقيقي، ومعارضة لم تستكمل بعد عمقها الشعبي والتنظيمي، وانتظار قلق لمرحلة قد تكون بداية التحول.

وفي ظل أزمة مركّبة ومعقدة، لا تملك أي جهة منفردة القدرة على حلها أو تجاوزها، تظل تونس في حاجة إلى تعاقد سياسي جديد يخرجها من الزمن الرمادي نحو أفق دولة ديمقراطية مستقرة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



إقرأ المزيد