الجزيرة.نت - 11/23/2025 10:24:17 PM - GMT (+3 )
Published On 23/11/2025
|آخر تحديث: 22:03 (توقيت مكة)
شارِكْ
باريس- منذ فقدان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أغلبيته البرلمانية قبل عامين، تجد البلاد نفسها أمام واحدة من أكثر اللحظات السياسية والاقتصادية حساسية.
فبعد تصويت الجمعية الوطنية برفض الجزء المتعلق بالإيرادات في مشروع موازنة 2026، وهو جزء مهم يشكل الأساس الذي تُبنى عليه تقديرات العجز وبنود الإنفاق، لم يعد الوضع يُقرأ فقط بوصفه اعتراضا على سياسات مالية وضريبية، بل باعتباره لحظة انفجار سياسي داخل تحالفات كانت تبدو ثابتة حتى أسابيع مضت.
وبينما اعتادت فرنسا توترات الميزانية السنوية، يُعد حجم الرفض وطبيعة الكتل المصوتة ضد المشروع إشارات مربكة تتجاوز الحسابات المالية لتلامس عمق الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد.
بعد أن صوّت 404 نواب ضد "مشروع قانون المالية" أو "قانون الموازنة لسنة 2026″، وامتنع 84 عن التصويت، وصوت نائب واحد فقط -وهو هارولد هوارت- لصالحه، توقفت المناقشات التي دامت لنحو 125 ساعة، وأحيل المشروع مباشرة إلى مجلس الشيوخ، بعد تجريده من جميع التعديلات التي أقرتها الجمعية الوطنية.
وأظهرت هذه النتائج بوضوح مدى ضعف التحالف البرلماني الذي تعتمد عليه حكومة رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو، ففي الوقت الذي كان يراهن فيه على وقوف كتل الوسط واليمين المعتدل إلى جانبه، جاء التصويت ليكشف العكس، مما فتح الباب أمام نقد واسع بأن حكومته فقدت السيطرة على مجلس النواب.
ويأتي ذلك بسبب امتناع مجموعات كانت تعد ضامنة للمشروع عن دعم الحكومة، في حين صوتت كتل أخرى كانت تتعاون معها ضده، ويرى مراقبون أن هذا الرفض لا يمكن اعتباره حدثا معزولا، بل هو انعكاس للحالة التي عرفتها البلاد بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة عندما وجد ماكرون نفسه مضطرا لتشكيل حكومة دون أغلبية حقيقية.
إعلان
وفي تصريح للصحفيين، أكد زعيم النواب الاشتراكيين بوريس فالو أن "الأرقام غير متطابقة"، معتبرا أن الإيرادات غير كافية لتعويض الوفورات في السياسات العامة. كما ندد بـ"تصلب جزء من كتلة الوسط"، مطالبا لوكورنو بـ"مراجعة سلطته" على حزبه.
ورغم أن الحكومة لا تزال تأمل في التوصل إلى تسوية مع مجلس الشيوخ والجهات البرلمانية الأخرى قبل نهاية العام، فإن رفض جزء الإيرادات تحديدا يكشف مدى هشاشة التحالفات السياسة، ويطرح تساؤلات بشأن قدرة السلطة التنفيذية على ممارسة الحكم بفعالية.
ما السيناريوهات المتاحة الآن؟ويطرح هذا الواقع مجموعة سيناريوهات وخيارات لا يبدو أي منها مريحا أو خاليا من الكلفة السياسية:
- أولها الدخول في مفاوضات جديدة مع الكتل البرلمانية ومحاولة تقديم تنازلات مالية أو سياسية لكسب أصوات مفقودة.
لكن هذا الخيار يحمل مخاطرة إضعاف البرنامج الاقتصادي الحكومي إلى درجة فقدان هويته الأصلية، خاصة بعد اشتراط الأحزاب المعارضة إحداث تغييرات جذرية في سياسات الإنفاق والضرائب على وجه الخصوص. - أما السيناريو الثاني، فهو اللجوء إلى استخدام صلاحيات دستورية استثنائية مثل المادة (49.3) من الدستور الفرنسي لتمرير الموازنة دون تصويت، وهو خيار رفضه رئيس الوزراء مبدئيا لتجنب أي أضرار سياسية.
وقد استخدم هذا السلاح الدستوري من قبل حكومات سابقة وأثار موجة من الانتقادات ومعارضة شرسة من الأحزاب والرأي العام. فعلى الرغم من فعاليته لمنع سقوط المشروع، إلا أنه يضع الحكومة في مواجهة مع الشارع ويمنح خصومها فرصة أخرى لتقديم مذكرة بحجب الثقة.
وهو احتمال لا يبدو بعيدا، فقد دعت زعيمة التجمع الوطني اليمين المتطرف مارين لوبان الحكومة إلى تحمل المسؤولية، واعتبرت في تغريدة نشرتها على منصة إكس أن "قوة هذا الرفض لا يمكن أن تؤدي إلا إلى نتيجة واحدة، وهي استقالة الحكومة وحل البرلمان ليتمكن الشعب من اختيار أغلبية جديدة".
ومن المتوقع أيضا العودة إلى النقاش حول ضرورة تشكيل الحكومة مرة أخرى أو الدعوة لانتخابات مبكرة، وهو حل لا ترغب فيه الرئاسة الفرنسية في الوقت الراهن، لأنه سيشكل بوادر انهيار لبنية الحكم التي أقامها ودافع عنها ماكرون طويلا.
أكدت حكومة سيباستيان ليكورنو، أمس السبت، أن التوصل إلى حل وسط لا يزال ممكنا في البرلمان، على الرغم من الرفض التام من قبل الجمعية الوطنية للميزانية، من دون إقناع المعارضة، التي تفكر بشكل واضح ومتزايد في اعتماد "قانون خاص" للحفاظ على عمل الدولة من خلال تجديد ميزانية 2025.
ويُجيز هذا القانون تحصيل الضرائب الحالية دون فرض تدابير ضريبية جديدة، ويُرفق بمرسوم يقيّد الإنفاق على الخدمات المعتمدة في العام السابق، التي تعتبر أساسية لاستمرار تقديم الخدمات العامة، ولا يعفي هذا القانون الخاص الحكومة من مواصلة النقاشات لاعتماد موازنة رسمية في أوائل العام المقبل.
ورغم الاستخدام النادر لهذه الأداة التشريعية، فإنها ليست المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، ففي ديسمبر/كانون الأول 2024، أقر البرلمان قانونا كهذا بعد سقوط حكومة ميشال بارنييه، إذ تعد هذه الفرضية "الأكثر ترجيحا"، وفقا لتصريح إريك كوكريل، رئيس لجنة المالية في الجمعية الوطنية على قناة محلية.
إعلان
ومن المتوقع أن يكلف تطبيق هذا القانون الخاص في الأول من يناير/كانون الثاني المقبل الاقتصاد الفرنسي 11 مليار يورو، وفقا لوزارة الحسابات العامة.
ما الآثار المتوقعة لهذه الأزمة؟سيخلف هذا الوضع أثرا فوريا يتمثل في انخفاض الإيرادات بمقدار 3 مليارات يورو، بسبب انخفاض النمو الاقتصادي بمقدار 0.2 نقطة مئوية، نظرا لتزايد حالة عدم اليقين، و8 مليارات يورو في إجراءات الادخار، التي لن تُنفّذ مقارنة بمقترح الميزانية الأولي.
وتأتي هذه التداعيات في لحظة حساسة على المستوى الاقتصادي، إذ تواجه فرنسا تحديات عدة تتمثل في ارتفاع الإنفاق العام وتباطؤ النمو وضغط أوروبي متزايد لإعادة الانضباط المالي.
كما سيؤدي ذلك إلى تعقيد مسار البلاد نحو خفض عجزها العام الكبير، في ظل انتقادات مستمرة لوكالات التصنيف الائتماني الرئيسية، ومن بينها "ستاندرد آند بورز" و"فيتش"، اللتان خفّضتا مؤخرا تصنيفها السيادي.
إضافة إلى ذلك، قد يسهم استمرار الأزمة البرلمانية في دفع أصحاب الأعمال إلى تقليص التوسعات أو تأجيل الاستثمارات، لأن الميزانية تتضمن تغييرات ضريبية تمس الشركات، مما يُنبئ بمشهد مالي أكثر هشاشة، والانتقال من خانة "الاختلاف السياسي الطبيعي" إلى خانة "الأزمة المالية المتزامنة مع غياب قدرة الحكم".
إقرأ المزيد


