"نبتة بلايا".. هل بنى المصريون مرصدا فلكيا قبل 7000 سنة؟
الجزيرة.نت -

في عمق الصحراء الكبرى، على بعد نحو 800 كيلومتر جنوب العاصمة المصرية القاهرة، تمتد أرض قاحلة من الرمال والحصى لا توحي بشيء. لكن في هذا الفراغ الصامت، كان ذات يوم نبض الحياة الأولى التي تأملت السماء بعين واعية.

هنا، في موقع يعرف باسم نبتة بلايا، أقام الإنسان منذ أكثر من 7 آلاف عام أقدم دائرة حجرية فلكية في العالم: مرصدا بدائيا يسبق "ستونهنج" الأوروبية بألفي عام، يقف شاهدا على لحظة فارقة في مسيرة العقل البشري: حين حاول الإنسان أن يقيس الزمن بنجوم السماء.

في هذه العصور القديمة استخدم الانسان النجوم كمرصد (بيكسابي)
ميلاد مرصد من الرمال

تبدأ القصة في ستينيات القرن الماضي، حين كانت مصر تُشيّد السد العالي في أسوان، ما هدد بإغراق عشرات المواقع الأثرية القديمة. تدخلت منظمة اليونسكو لإنقاذ المعابد الكبرى، لكن بعيدا عن وادي النيل، على مسافة 100 كيلومتر غربي موقع معبد أبو سمبل الحالي، كان عالم الآثار الأميركي فريد ويندورف يبحث عن شيء مختلف، وهو جذور مصر قبل الفراعنة، حين كان النيل لا يزال نهرا يتكون في ذاكرة الأرض.

وفي عام 1973، أثناء رحلة عبر الصحراء، لاحظ دليل بدوي يُدعى عيد مجموعة من الحجارة الضخمة المنتصبة وسط الكثبان. بدا المشهد غريبا وغير طبيعي، فقاد عيد ويندورف وفريقه إلى هناك، كما تبين دراسة بدورية "جورنال أوف أنثربولوجيكال أركيولوجي".

في البداية ظن العلماء أن الصخور ناتجة عن التعرية، لكنهم أدركوا سريعا أن الموقع كان قاع بحيرة قديمة، ما يعني أن الحجارة لم تكن من المكان نفسه، بل وُضعت هناك عمدا.

عاد الفريق مرات عديدة، يحفرون في الرمال، حتى اكتشفوا دائرة من الحجارة البازلتية السوداء، مصطفة بانتظام مدهش. لم يكن شكلها عشوائيا، بل بدا كما لو كانت تشير إلى شيء في الأفق.

جانب مما وجده العلماء في محيط نبتة بلايا (رايم بيتز)
السماء الأولى

بحث ويندورف لسنوات عن تفسير النظام الكامن خلف هذه الحجارة. ثم استعان بعالم الفيزياء الفلكية والآثار جاي ماك كِم مالفيل من جامعة كولورادو، المتخصص في "علم الفلك الأثري".

إعلان

حين وصل مالفيل إلى الموقع، جلس طويلا بين الأعمدة الحجرية التي لا يزيد ارتفاعها عن المترين، محاولا أن يرى ما رآه من بنوها قبل 7 آلاف عام.

قال لاحقا في تصريحات لمجلة "أسترونومي" الفلكية الشهيرة: "كانت لحظة أشبه بالصفاء الذهني. أدركت أن الحجارة تشكل خطوطا تمتد من تلة دفن كبيرة، كأشعة تنبثق من مركز الشمس."

الدائرة الحجرية في نبتة بلايا تتألف من 6 صفوف من الحجارة البازلتية، موضوعة بعناية في محيط دائري قطره نحو 4 أمتار.

لكن ما يهم ليس شكلها، بل اتجاهاتها، فكل مجموعة من الحجارة تشكّل محاذاة نحو نقطة محددة في الأفق، تماما كما يفعل علماء الفلك اليوم حين يوجّهون تلسكوبا نحو نجم.

من خلال الحسابات الفلكية التي أجراها مالفيل، تبيّن أن هذه المحاذاة ربما تتوافق مع مواقع شروق بعض النجوم اللامعة في عام 4800 قبل الميلاد، أي قبل أكثر من 6800 عام من الآن.

عندما أعاد مالفيل رسم المحاذاة على خريطة السماء القديمة باستخدام برامج فلكية عكسية (تحسب مواقع النجوم في الماضي)، وجد أن التطابق يصعب أن يكون صدفة، أعلنت جامعة كولورادو عن الكشف في مارس/آذار 1998.

كوكبة الجبار ونجما الشعرى اليمانية والشعرى الشامية (الجزيرة)
خارطة النجوم

من النجوم التي رصدوها في محاذاة مع تلك الأحجار

  • الشِّعرى اليمانية: ألمع نجم في السماء، وكان شروقه الاحتراقي، أي ظهوره الأول قبل شروق الشمس، يتزامن مع قدوم موسم المطر. هذا الحدث نفسه كان لاحقا أساس التقويم المصري القديم، إذ كان المصريون يربطون طلوع الشعرى بفيضان النيل.
  • السماك الرامح: نجم برتقالي في كوكبة العواء، يُستخدم كعلامة على الاعتدال الصيفي، وتشير محاذاة أحد صفوف الحجارة مباشرة إلى شروقه في ذلك الزمن.
  • ألفا قنطورس: أحد ألمع نجوم السماء الجنوبية، وكان يُرصد من الأفق عند غروب الشمس، وجوده في المحاذاة يدل على أن سكان نبتة بلايا تتبّعوا الحركة اليومية والسنوية للسماء كلها، شمالا وجنوبا.
  • نجوم كوكبة الجبّار: وبخاصة منطقة الحزام، التي تظهر فيها 3 نجوم مصطفة بانتظام. تشير بعض الحجارة إلى هذه النجوم، ما يدل على أن الجبار كان رمزا مقدسا ربما ارتبط بذكورة الآلهة أو بخصوبة الأرض، وهي فكرة انتقلت لاحقا إلى مصر حيث أصبحت نجوم الجبار مرادفا للإله أوزيريس.

بالإضافة إلى النجوم، حُددت بعض المحاور الحجرية نحو مواضع شروق وغروب الشمس في أطول وأقصر أيام السنة، أي الانقلابين الصيفي والشتوي. كان ذلك يعني أن سكان نبتة بلايا استطاعوا قياس طول السنة الشمسية تقريبا، وتحديد متى سيبدأ موسم الأمطار.

عندما كانت الشمس تشرق بين حجرين محددين، عرف الرعاة أن المطر قريب، وأن عليهم الاستعداد للانتقال نحو البحيرة.

ربما كانت الحجارة إذن آلة فلكية ضخمة، استخدمها سكان نبتة بلايا لقياس قدوم الانقلاب الصيفي؛ تلك اللحظة التي تتزامن مع قدوم المطر الذي يمنح الحياة للبحيرة من جديد.

هكذا، قبل أن تظهر أهرامات الجيزة أو حضارة بابل، كان هؤلاء الرعاة البدائيون يحدّدون الفصول بالنظر إلى مواقع النجوم، فيما يُعتقد أنه أول محاولة بشرية لتنظيم الزمن وفق نظام كوني.

بين الصحراء والمطر

من الناحية البيئية، كانت نبتة بلايا خلال العصر الحجري الحديث واحة موسمية خصبة، تمتلئ بالماء 4 أشهر كل عام، وحول البحيرة أقام الناس أكواخا دائرية من الطين، وحفروا آبارا، وخزنوا حبوب الدخن والذرة الرفيعة.

إعلان

كانت الحياة هنا بين الصيد والرعي والزراعة البدائية. عثر العلماء على أدوات طحن للحبوب، وعلى حُلي مصنوعة من عظام الأبقار، وعلى نقوش لأسماك بحرية تدل على تجارة بعيدة المدى وصلت إلى البحر الأحمر.

لكن بحلول عام 3000 قبل الميلاد، تغيّر المناخ مجددا، وجفّت البحيرات، وتحولت الواحات إلى رمال لا ترحم. اضطر السكان إلى الهجرة شمالا نحو وادي النيل أو جنوبا إلى النوبة، حاملين معهم رموزهم وذكرياتهم عن السماء.

بل يعتقد بعض الباحثين أن هذه الهجرات من نبتة بلايا أسهمت في نشوء حضارة مصر القديمة. بالطبع يظل كل ما سبق محل جدل بين الباحثين، لكن يبدو أن الإنسان القديم كان أكثر وعيا بسماء الليل مما ظن العلماء.



إقرأ المزيد