الجزيرة.نت - 11/8/2025 4:55:03 PM - GMT (+3 )
كثير من العلوم ساهم غير المتخصصين من أصحاب الفكر الثاقب والملاحظات الدقيقة في تأسيسها، وبعد مرور الزمان ومع تطور العلم أصبحت علوما رصينة مبنية على أسس وقواعد علمية، ولكن ظل اسم وشرف تأسيس هذه العلوم مرهونا بالمؤسس الأول.
من هذه العلوم علم تربية الحيوان، وهو علم زراعي يجمع بين علمي الوراثة والإحصاء، وساهم في تأسيسه المزارع الإنجليزي روبرت بيكويل منذ أكثر من مئتي عام، وقد أحدث هذا العلم بعدها ثورة في الإنتاج الحيواني في جميع أنحاء العالم.
في تصريح خاص للجزيرة نت يقول الدكتور محمد علي عبيد العبري الأستاذ المشارك في قسم علوم الحيوان والطب البيطري في جامعة كورنيل، والباحث في علم الجينوم والمعلوماتية الحيوية، إن المزارع الإنجليزي روبرت بيكويل كان له دور في إرساء علم تربية الحيوانات.
ويضيف "حتى عام 1700 كان مربو الماشية يُزاوجون حيواناتهم بشكل شخصي دون تسجيل بيانات أدائها. فعلى سبيل المثال، كانت الأبقار الإناث تتزاوج مع ثيران متوفرة في الحظيرة نفسها أو مع ثيران في الجوار. وكانت أهداف التربية بسيطة للغاية وتعتمد على الخصائص المرئية للحيوانات".
وكان السير روبرت بيكويل (1725-1795)، وهو مزارع من ليسيسترشاير بإنجلترا، أول من طرح فكرة تسجيل أداء الحيوانات وبيانات نسبها بشكل منهجي.
فبدلا من تزاوج الحيوانات عشوائيا، قرر اختيار الحيوانات ذات الأداء الأفضل وتزاوجها "داخليا" لإنشاء سلالة من الحيوانات المُحسّنة وراثيا.
وقد أدت هذه المنهجية إلى تثبيت الصفات المرغوبة في تلك الحيوانات، مثل زيادة إنتاجية اللحوم وكفاءة الإنتاج، مما أدى إلى ظهور سلالات جديدة. ومن الأمثلة على هذه السلالة التي طورها السير روبرت بيكويل بهذه الطريقة "سلالة نيو ليستر"، التي أسس لها لاحقا جمعية ديشلي للحفاظ على نقاء السلالة.
علاوة على ذلك، وضع السير روبرت أسس سلالات خيول شاير والماشية ذات القرون الطويلة.
ويضيف الدكتور محمد أن علم تربية الحيوانات يعتمد على مبدأ توريث الصفات والاختيار الأمثل للأفراد ليكونوا آباءً للأجيال القادمة.
إعلان
فالوراثة هي ببساطة مدى انتقال الصفة من الآباء إلى الأبناء، ويتراوح تقييم هذه الصفة الوراثية بين 0 و1. فتعني الوراثة 0 أن الصفة خاضعة تماما لسيطرة البيئة المحيطة بالحيوان (مثل: العلف، والمناخ، وعوامل المرض).
من ناحية أخرى، تعني الوراثة 1 أن الصفة خاضعة تماما لسيطرة الجينات المنقولة من الآباء إلى الأبناء. وتتجلى معظم الصفات نتيجة لكل من العوامل البيئية (التربية) والعوامل الوراثية (الطبيعة).
ويمكن اعتبار اختيار الأفراد الأنسب كآباء للجيل القادم بمثابة عنق الزجاجة في عملية تربية الحيوانات. ويستلزم الاختيار الناجح التسجيل المنهجي لسجلات النسب والبيانات المتعلقة بالصفة المراد تحسينها، وهو غالبا الجزء الأكثر تعقيدا.
ويُستخدم هذان المصدران للمعلومات لتصنيف الحيوانات باستخدام الأساليب الإحصائية المناسبة، وتمكين اختيار الآباء للجيل القادم.
يعتمد التقدم المحرز في تحسين الصفة على مدى وراثتها. وتستغرق الصفات عالية الوراثة وقتا أقصر للتحسين مقارنة بتلك ذات الصفات منخفضة الوراثة، وباستخدام هذه المبادئ، نجحت تربية الحيوانات الحديثة في زيادة إنتاجية الماشية بشكل كبير.
وبعد روبرت بيكويل لعب بعض العلماء دورا رئيسيا في تطوير تربية الحيوانات كعلم.
جمع روبرت بيكويل الماشية المفيدة من رحلات الخيل المكثفة، ودمجها في سلالة من خلال التزاوج الداخلي المتعمد والمكثف لتثبيت النوع.
وقام بإجراء التزاوج الداخلي الانتقائي بغرض تثبيت صفات معينة، وبذلك أصبح من أوائل من قاموا بتربية كل من الأغنام والماشية من أجل إنتاج اللحوم، حيث كانت تربى سابقا في المقام الأول من أجل الصوف أو العمل، وكان بيكويل شديد التكتم على عمله.
وقام بيكويل بتطوير أغنام ليسيسترشاير وماشية لونجهورن إلى سلالات منتجة للحوم، لكنها كانت ضعيفة الإنتاج بالنسبة للحليب.
كما نجح في تطوير أغنام ليستر المنتجة للصوف والمنتجة أيضا للحوم عالية الجودة، وقام بتربية خيول شاير، وحظي بيكويل باهتمام الملك جورج الثالث الملقب بالمزارع جورج، ويُقال أن بيكويل احتفظ بالهياكل العظمية للحيوانات والجثث المخللة فيما يشبه المتحف.
ورغم أنه لم يطلق اسم بيكويل على أيٍّ من السلالات التي أسهم في تطويرها، فإن إحدى سلالات الأغنام التي تم تطويرها في فرنسا تمت تسميتها باسم ديشلي ميرينو، على اسم منطقة "ديشلي" التي نشأ فيها روبرت بيكويل.
وبعد بيكويل شارك بعض المزارعين في تطوير تربية الحيوان، فكان الأخوان كولينج من أوائل المربين على أساس منهجي لماشية شورثورن.
والأخوان روبرت وتشارلز كولينج من مواليد عام 1749-1751 على التوالي في دورهام بإنجلترا، وتُوفي كلاهما في 1820-1836 على التوالي.
وكان تشارلز، الذي ورث مهنة تربية الحيوان عن والده، قد قام بزيارة لروبرت بيكويل، وكان لها دور مهم في تنمية فكرة تطوير تربية الحيوان لديه.
تاريخ طويلرغم أن تربية الحيوان بناء على الصفات المرغوبة يعتبر علما حديثا، فإن لها تاريخا ضاربا في القدم، حيث توضح جدران المعابد المصرية القديمة أن أهل مصر اهتموا قديما بتربية الخيل والأوز والدجاج والحيوانات الأليفة والمفترسة وغيرها من الطيور.
إعلان
ويقول الدكتور محمود مغربي عراقي الأستاذ الفخري بكلية الزراعة جامعة بنها، في تصريح خاص للجزيرة نت، إن المسلمين اهتموا بتطور علم تربية الحيوان أثناء الفتوحات الإسلامية.
وفي أثناء رحلته لوصف بلاد الهند، والتي استمرت قرابة الأربعين سنة، لاحظ أبو الريحان محمد البَيْرُوني أن الفلّاحين هناك يقومون بعملية غاية في الذكاء لتعديل مستوى إنتاج المحاصيل الخاصة بهم، وهي أنهم في كل جيل من الإنتاج، ليكن الذرة مثلا، يضعون الحبوب الأفضل والأكبر حجما جانبا ولا يبيعونها، ثم في دورة الزراعة التالية يقومون باستخدام تلك الحبوب كبذور للمحصول القادم، ثم من جديد يقومون بانتقاء أفضل إنتاج في هذا المحصول، ويقومون بتخزينه للدورة القادمة، وهكذا في كل دورة.
في كتابه عن الهند يقول أبو الريحان البيروني إن "الزارع يختار حبوبه، ويسمح لها بالنمو إلى المستوى الذي يريد ثم يختار الأفضل، في حين يقتلع البقية. بينما يترك المشجّر الأغصان التي يراها ممتازة، ويقطع كل الأغصان الباقية، كما يقتل النحل النحلات التي تأكل فقط ولا تعمل في الخلية".
إقرأ المزيد


