الجزيرة.نت - 9/18/2025 3:14:10 AM - GMT (+3 )
في إحدى طلعات الاستطلاع الليلية للمقاتلة الأميركية "إف-15 إي سترايك إيغل" (F-15E Strike Eagle)، واجه الطاقم واحدة من أسرع التحديات نموا في الحروب الجوية الحديثة، وهي أسراب ضخمة من الطائرات المسيّرة.
يجلس الطيار في المقعد الأمامي مركزا على قيادة المقاتلة ومناورتها وسط السماء المشبعة بالتهديدات، بينما في المقعد الخلفي، يجلس ضابط آخر ينغمس في النظر إلى عدة شاشات وأجهزة، كالرادار وحاضن الاستهداف وأنظمة الدفاع، لكي يفرز عشرات الإشارات المفاجئة، التي مثلت كل واحدة منها طائرة مسيّرة هجومية.
ويوضح هذا التصور مدى الأهمية التي يمثلها الضابط في المقعد الخلفي، والذي يعرف باسم "ضابط منظومات الأسلحة" (Weapons Systems Officer)، وكما يوضح توصيف رسمي للتجنيد في سلاح الجو الملكي البريطاني أن وظيفة ضابط منظومات الأسلحة هي جمع المعلومات الاستخباراتية ودعم القوات على الأرض، بينما يدير أسلحة طائرته في الوقت ذاته.
تظهر أهمية ضابط منظومات الأسلحة في كونه مُنسقا تكتيكيا وخبيرا في تشغيل الأسلحة، يقود المعركة من المقعد الخلفي أكثر مما يشارك في قيادة الطائرة. لأن الخبرات القتالية الحديثة أوضحت أن وجود شخصين في قمرة القيادة يختصر الوقت ويزيد الأمان، خصوصا عند تعدد الأهداف وتزايد التهديدات الجوية مثل الطائرات المسيّرة.
إذ يتطلب الأمر فريقا عالي الأداء والكفاءة كي يواجه العشرات من تلك التحديات الطائرة في اللحظة المناسبة، وفقا للضباط المشاركين في تلك العمليات.
فما دور ضابط منظومات الأسلحة تحديدا الذي يمكن تسميته بسيّد الوميض نظرا للأدوار المنوطة به، وكيف تطور هذا الدور في القوات الجوية الأميركية وسلاح الجو الملكي البريطاني؟
في عالم الطيران العسكري الحديث، حيث يتسارع إيقاع المعارك وتتعقد المهام الجوية، يظل وجود عقلين في قمرة قيادة الطائرة ميزة فارقة، لأن وجود فردين في الطاقم يتيح تقاسم المهام المعقدة التي تفرضها تكتيكات المقاتلات الحديثة.
إعلان
هذا ما يؤكده المقدم إريك أوستندورف، ضابط منظومات الأسلحة في سلاح الجو الأميركي، الذي أمضى أكثر من 30 عاما على متن مقاتلات " إف-15 إي سترايك إيغل" و"إف-111 آردفارك" (F-111 Aardvark).
لا يُعد ضابط منظومات الأسلحة مساعدا للطيار، بل شريكا مؤهَّلا يؤدي دورا تكامليا في العملية. إذ يركز الطيار على القيادة والمناورة والملاحة، في حين يتولى ضابط منظومات الأسلحة تشغيل منظومات الرادار والاستشعار والأشعة تحت الحمراء والاتصالات، وإدارة ترسانة الأسلحة المعقدة بالطائرة المقاتلة.
وفي التطبيق العملي؛ قد يعني ذلك أن هذا الضابط في طلعات الاستطلاع ربما يرسل إحداثيات طائرات معادية إلى المقاتلات الحليفة، أو يستخدم المستشعرات للتشويش على رادارات العدو لتغطية سرب هجومي صديق. تلك المهام تتطلب إبداعا ومرونة بشرية يصعب على الأتمتة وحدها تقليدها.
فهذا المزيج من التدريب المكثف، والحكم البشري، والكفاءة التقنية هو ما يميز ضباط منظومات الأسلحة في القوات الجوية، وغالبا ما يكونون مجهولين خلف الكواليس، أو بالأحرى خلف المقعد الأمامي.
يهدف الفصل في المهام إلى تخفيف الأعباء وتقاسمها خاصة في المعارك القتالية الكثيفة، إذ يصعب على شخص واحد أن يسيطر فيها على كل التفاصيل في آن واحد. وبهذا النموذج، يتفرغ الطيار لإدارة عمليات الطيران والتنسيق مع التشكيلات الأخرى، بينما يركز ضابط منظومات الأسلحة على تتبع الأهداف وتجهيز الأسلحة.
وفي كثير من المهمات، يصبح هذا الضابط قائدا فعليا للعملية. على سبيل المثال؛ في حالة قاذفات "بي-52"، هو من يرسم خطة استخدام الأسلحة ويشرف على تنفيذها وفي مقاتلات "إف-15 سترايك إيغل" يجلس خلف 4 شاشات تعرض إنذارات وصور وبيانات تكتيكية، ومهمته دمج تلك المعلومات معا ليوجّه مسار الضربة بدقة. بمعنى أن يفهم ما يريده القادة على الأرض، ليترجم نواياهم إلى خطة سلاح، ثم يمنح الطيار الضوء الأخضر للإطلاق.
هذا الدور كان حاضرا أيضا في مقاتلات "تورنادو" البريطانية المتقاعدة، إذ يتذكر بعض الطيارين في سلاح الجو الملكي البريطاني أن وجود ضابط منظومات الأسلحة منحهم ثقة ومرونة أكبر، وأن الانتقال إلى طائرات بمقعد واحد جعلهم يفتقدون تلك الشراكة الحاسمة.
ربما يمكننا ربط دور ضابط منظومات الأسلحة المعاصر بأدوار المراقبين والملاحين في العصور الماضية. ففي قاذفات الحرب العالمية الثانية، كان ثمّة أفراد من الطاقم يتولّون مهام الملاحة والقصف والتسليح.
وخلال حقبة الحرب الباردة، ازدادت الطائرات تعقيدا، وانتشرت التصاميم ثنائية المقاعد، فمثلا في الستينيات وفي أثناء حرب فيتنام، تطلبت مقاتلة القوات الجوية الأميركية "إف-4 فانتوم الثانية" وجود ضابط في المقعد الخلفي لتشغيل الرادار والصواريخ، وهو الدور الذي عُرف في القوات الجوية الأميركية حينها بضابط منظومات الأسلحة.
وبالمثل، حملت قاذفات "الفولكان" الإستراتيجية الشهيرة في سلاح الجو الملكي البريطاني، ولاحقا مقاتلات "التورنادو" الهجومية، ملاحين مسؤولين عن أنظمة الملاحة والاستهداف. وكان أولئك الضباط في المقعد الخلفي عنصرا أساسيا في عملية إيصال الأسلحة النووية أو التقليدية وفق ما أتاحته التكنولوجيا آنذاك.
إعلان
وبحلول السبعينيات والثمانينيات، أصبح لقب ضابط منظومات الأسلحة مصطلحا رسميا مع دخول الطائرات متعددة المهام. فقد كانت مقاتلة " إف-111 آردفارك" الأميركية من أوائل الطائرات التي دمجت هذا الدور كقائد مهمة في المقعد الأيمن.
وعندما دخلت المقاتلة "إف-15 سترايك إيغل" (F-15E Strike Eagle) الخدمة في أواخر الثمانينيات كمقاتلة هجومية ثنائية المقعد، ترسّخ دور ضابط منظومات الأسلحة بقوة، إذ إن مهمة تلك المقاتلة القائمة على الجمع بين القتال الجوي والضربات الدقيقة كانت تتجاوز قدرة طيار واحد.
سلاح الجو الملكي البريطاني بدوره طوّر دور الملاح ليصبح ضابط منظومات الأسلحة بشكله الحديث. وقد حملت مقاتلة "تورنادو جي آر 4" (Tornado GR4) طيارا وملاحا، وهي المقاتلة التي كانت عماد سلاح الجو البريطاني الهجومي من التسعينيات حتى انتهاء خدمتها عام 2019.
وفي البداية، اقتصر دور الملاح على الملاحة وتسليم الأسلحة، لكن مع تحديث أنظمة الطائرة، من مناظير الرؤية الليلية إلى حاضنات الاستهداف بالليزر والأسلحة الموجهة بنظام "جي بي إس"، توسعت مسؤولياته بصورة أكبر. وكثير من تلك التطويرات، مثل الرادار متتبع التضاريس والقنابل الموجهة بالليزر، كان تشغيلها من مسؤولية ضابط منظومات الأسلحة في المقعد الخلفي.
مقاتلات وقاذفاتفي سلاح الجو الأميركي، أدى ضباط مقاتلة "سترايك إيغل" دورا مهما في السنوات القليلة الماضية بالشرق الأوسط، إذ كانت تلك المقاتلات تنفذ مهام الإسناد الجوي القريب، ويتولى ضابط منظومات الأسلحة التنسيق مع المراقبين على الأرض لضرب المواقع المعادية بدقة حتى إن كانت قريبة من القوات الحليفة.
مقاتلة "إف-15 سترايك إيغل" ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي كتطوير مباشر لنسختها الأسبق "إف-15 إيغل"، التي صُمّمت منذ نشأتها للسيطرة الجوية والقتال جو جو.
لكن جاءت النسخة الجديدة بفلسفة مختلفة، إذ احتفظت بخفة "الإيغل" الأصلية وقوتها، وأضيفت إليها قدرات هجوم أرضي متقدمة، لتصبح سلاحا مزدوج المهام قادرا على التوغّل في الأجواء المعادية المحصّنة، ثم إلقاء حمولات ضخمة من القنابل، والقتال للخروج من تلك الأجواء.
مهمة بهذا الحجم، تجمع بين التفوق الجوي والهجوم الأرضي، يصعب على طيار واحد أن ينفذها. ومن هنا جاء تصميم الـ"سترايك إيغل" بقمرة رمادية داكنة تسع فردين، يعملان معا لتوزيع تلك المهام.
كما تُرجع القيادة الجوية الأميركية الفضل لهذا الفريق في حماية الطائرة أيضا، إذ يستطيع ضابط منظومات الأسلحة أثناء مسحه للمستشعرات أن يكتشف تهديدات مثل صواريخ أرض جو أو المقاتلات المعادية، فيساعد الطيار على المناورة أو الاشتباك معها.
ولا يقتصر هذا الدور على مقاتلة "سترايك إيغل" وحدها، فأسطول القاذفات الإستراتيجية الأميركية يعتمد أيضا بصورة واضحة على هذا الدور، فالقاذفة الأسرع من الصوت "بي-1 بي لانسر" (B-1B Lancer) تضم ضمن طاقمها -المكوّن من 4 أفراد- ضابطي منظومات أسلحة مسؤولين عن الأنظمة الهجومية والدفاعية، يضعا خطط إطلاق الأسلحة، ويبرمجا الذخائر الموجهة بنظام "جي بي إس"، ويشغّلا حاضن الاستهداف، ويديرا أنظمة التشويش الإلكتروني والإنذارات، بينما يركز الطيار على قيادة الطائرة العملاقة على ارتفاع منخفض أو يعمل على التنسيق مع القيادة.
وينطبق الأمر ذاته على القاذفة الإستراتيجية "بي-52 ستراتوفورتريس" (B-52 Stratofortress)، إذ يتولى هذا الدور ضابط منظومة الأسلحة، الذي كان يُعرف تاريخيا بضابط الرادار الملاح أو ضابط القصف. ففي مهام الضربات البعيدة المدى، يبرمج ضباط منظومات الأسلحة الأهداف ويضغطون على المفاتيح لإطلاق الصواريخ أو القنابل عند صدور الأوامر.
أما بالنسبة لسلاح الجو الملكي البريطاني، فحتى بعد انتهاء خدمة مقاتلات "تورنادو" فإن دور ضابط منظومات الأسلحة استمر، ليواصل أداء مهامه على متن الطائرات متعددة الأطقم المزودة بمستشعرات متطورة. وأبرز الأمثلة كانت طائرة الدوريات البحرية "بوينغ بيه-8 إيه بوسيدون" (P-8A Poseidon)، التي تُستخدم لمطاردة الغواصات وحماية السواحل البريطانية.
إعلان
وتحمل تلك الطائرة عادة طاقما من طيارَين وما يصل إلى 7 أفراد للمهام، وغالبا يقود المهمة ضابط منظومات الأسلحة. وفي مجال الطائرات المسيّرة، يجري تدريب بعض ضباط سلاح الجو الملكي على تشغيل أنظمة المهمة لطائرات "إم كيو-9 بي" (MQ-9B) المسيّرة، بالعمل جنبا إلى جنب مع الطيارين من محطات أرضية، بأسلوب مشابه لتعاون الطيار ومشغّل المستشعرات في مسيّرات "إم كيو-9 ريبر" الأميركية الشهيرة.
تطور مستقبلييتشكل دور ضابط منظومات الأسلحة باستمرار بفعل التكنولوجيا. فمن جهة، أتاحت إلكترونيات الطيران المتقدمة والأتمتة للطائرات القتالية الحديثة أن يقودها طيار واحد فقط. فأحدث المقاتلات الشبحية الأميركية مثل "إف-22" و"إف-35″، وكذلك مقاتلة "تايفون" و"إف-35 بي" في سلاح الجو الملكي البريطاني، جميعها ذات مقعد واحد، وتعتمد على دمج المستشعرات والمساعدة الحاسوبية لتخفيف عبء العمل عن الطيار. وتُظهر هذه الطائرات أنه مع التصميم الصحيح يمكن لشخص واحد فعلا أن يتولى كل شيء في العديد من السيناريوهات.
لكن مع تزايد اعتماد الحروب الحديثة على البيانات، بدأت بعض القوات الجوية في العودة لتفضيل الطائرات التكتيكية ثنائية الطاقم. فالجيش الصيني، على سبيل المثال، يسعى لتطوير نسخ بمقعدين من مقاتلات هجومية متطورة مثل "جيه-16" (J-16)، وحتى المقاتلة الشبحية "جيه-20" (J-20)، خصيصا لإفساح المجال لضابط منظومات الأسلحة بجانب الطيار.
ويرى الإستراتيجيون الصينيون أن حجم المعلومات في معارك المستقبل، من إدارة أسراب الطائرات المسيّرة المرافقة للحرب الإلكترونية والصواريخ بعيدة المدى، قد يتجاوز قدرة الطيار وحده. وهنا يمكن أن يشكّل وجود إنسان إضافي في الحلقة، متعاون مع الذكاء الاصطناعي، فارقا في ميدان القتال.
الأمر نفسه يخضع للنقاش في الغرب، ففي الولايات المتحدة، بُنيت المقاتلة الجديدة "إف-15 إي إكس" (F-15EX) بمقعدين، لكن القوات الجوية خططت في البداية لتشغيلها بطيار واحد فقط في مهام القتال الجوي. ويرى بعض الخبراء أن ترك المقعد الخلفي فارغا سيكون إهدارا للفرصة؛ إذ يمكن لضابط منظومات الأسلحة أن يستغل حواسيب الطائرة المفتوحة البنية ومستشعراتها ليكون قائد المهمة، لينسق الطائرات المسيّرة أو يدير هجمات معقدة بينما يركز الطيار على القيادة.
وقد يمتد هذا المفهوم، المعروف بـ"المساعد القتالي"، إلى مقاتلات الجيل السادس والقاذفات المستقبلية، فالقاذفة الشبحية الجديدة "بي-21 رايدر" (B-21 Raider) ستُشغّل بطاقم من فردين على الأقل، ومن المتوقع أن يكون أحدهما ضابط منظومات مهام، يتولى إدارة الطائرات المسيّرة المرافقة أو عمليات الحرب الإلكترونية إلى جانب التحكم بالأسلحة.
والخلاصة التي تكشفها هذه التحولات ليست مجرد جدل تقني حول عدد المقاعد في قمرة القيادة، بل هو انعكاس لمعركة أوسع بين الإنسان والتكنولوجيا في ميدان الحرب المعاصر. فكلما ازدادت ساحات القتال تشابكا واعتمادا على تدفق هائل من البيانات والمستشعرات والذكاء الاصطناعي، برزت الحاجة إلى عقل بشري إضافي يشارك الطيار في صناعة القرار ويحوّل الطائرة من مجرد منصة أسلحة إلى مركز قيادة متكامل.
وهكذا، يعود ضابط منظومات الأسلحة إلى الواجهة، ليس بوصفه "عنصرا زائدا" يمكن الاستغناء عنه، بل ضمانة لتفوق تكتيكي في معارك يحدد فيها التحكم بالمعلومات، أكثر من السرعة أو المناورة، مصير السماء ومن يملك زمامها.
إقرأ المزيد