قيس سعيد و"الثورات الثلاث" في تونس
الجزيرة.نت -

تدخل تونس سنة سياسية جديدة على وقع ضبابية خانقة تلف المشهد العام، بعد مرور ما يقارب العام على الانتخابات الرئاسية (أكتوبر/ تشرين الأول 2024)، وست سنوات منذ تولي قيس سعيد مقاليد الحكم (2019).

لكن لا شيء يوحي بأن هذه السنة ستكون مختلفة عن سابقاتها، لا من حيث الانفراج السياسي، ولا من حيث الإنجاز الاقتصادي أو الاجتماعي. لا تزال تونس أسيرة ركود مزمن، وانسداد في الآفاق، وتدهور في مؤشرات التنمية، وسط إدارة عمومية مترددة، وخطاب سياسي منفصل عن الواقع.

ما تعيشه تونس اليوم ليس فقط أزمة اقتصادية أو اجتماعية أو حتى سياسية، بل أزمة رؤية وغياب تام لأجندة واضحة تُحدد الأولويات والمسارات، وتُقدم بدائل حقيقية للأزمات المتفاقمة.

فرغم ما يُعلَن في الخطاب الرسمي من "تصحيحات" و"إنجازات تاريخية"، تبدو البلاد سائرة في منحدر من الغموض والعزلة والجمود، يُهدد تماسكها الداخلي ومكانتها الإقليمية. الأرجح أننا سنكون أمام سنة سياسية أخرى خالية من أي ديناميكية إيجابية ومن أي تداول حر وفاقدة لأي أفق.

الإجراءات الاجتماعية: وعود تتعثر عند أول اختبار

منذ 2021، كثف الرئيس قيس سعيد من تصريحاته حول بناء "دولة اجتماعية عادلة"، تقوم على إنهاء التشغيل الهش، وتحقيق العدالة الجبائية، وإنصاف الفئات الضعيفة.

وتم خلال العام الماضي الإعلان عن عدد من الإجراءات ذات الطابع الاجتماعي، من بينها إنهاء نظام المناولة في القطاع العام، إدماج الأساتذة النواب في الوظيفة العمومية، زيادات في الحد الأدنى للأجور والمعاشات في القطاع الخاص، والتفكير في إنشاء صندوق لتعويض العاطلين عن العمل.

لكن، ورغم هذه الإعلانات، فإن الغالبية الساحقة من هذه الإجراءات لم تشهد تفعيلا على أرض الواقع، وظل أثرها محدودا أو شبه منعدم، ولم يتجاوز سقف الرمزية أو الدعاية الرسمية بالنسبة لعديد الفئات الاجتماعية.

وفي الأثناء، يتواصل ارتفاع الأسعار، وخاصة أسعار المواد الأساسية والخدمات، وتتفاقم معاناة التونسيين مع تراجع المقدرة الشرائية وندرة المواد الأساسية، إلى جانب التدهور المتسارع في خدمات المرفق العمومي، خاصة في قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والنقل.

إعلان

وفي ظل هذا الانسداد الاقتصادي والاجتماعي، تواصل الهجرة السرية تصاعدها، ولم تعد مقتصرة على الشباب الباحث عن فرصة، بل امتدت لتشمل الكهول والعائلات، في مؤشر خطير على عمق اليأس الجماعي من إمكانية العيش الكريم داخل البلاد.

المناولة وترسيم النواب مثالا: المراسيم وحدها لا تكفي

الإجراء الرمزي الأبرز كان المرسوم الرئاسي الذي أعلن إنهاء العمل بالمناولة في القطاع العام، وهي صيغة تشغيل هشة كانت محل احتجاج واسع. كما صدر قرار بترسيم دفعة أولى من الأساتذة النواب، وهي فئة تعمل منذ سنوات طويلة دون حقوق واضحة.

وفي مستهل سنة سياسية جديدة، تبدو الساحة التونسية مثقلة بوعود لم تجد طريقها إلى التنفيذ، وعلى رأسها ملف انتداب الأساتذة النواب، الذي ورغم التعهدات الرئاسية المتكررة منذ 2021 بإيجاد حل نهائي له، لا يزال يراوح مكانه بين التصريحات والانتظار.

فبحسب المعطيات الرسمية، يُقدر العدد الإجمالي للنواب المعنيين بالتسوية بحوالي 10 آلاف أستاذ ومعلم نائب، وقد تم إلى حدود منتصف 2025 تسوية وضعية نحو 8 آلاف منهم فقط، في حين ينتظر الباقون تنفيذ الوعود الحكومية باستكمال الانتداب على دفعات تمتد حتى 2026.

هذا التباطؤ في التنفيذ، رغم وضوح الأرقام وضغط الشارع التربوي، يعكس غياب الإرادة أو القدرة على ترجمة الشعارات السياسية إلى إنجازات ملموسة، ويكرس مناخا من عدم الثقة بين الدولة ومواطنيها.

ورغم صدور المراسيم والنصوص التنظيمية، فإن غياب خطة تمويل مفصلة وجدولة زمنية دقيقة جعل هذه الوعود تراوح مكانها. ففي مشروع قانون المالية لسنة 2025، لا تظهر بشكل واضح اعتمادات تغطي تنفيذ هذه القرارات. وفي ظل عجز يُقدر بأكثر من 8.5% من الناتج المحلي، وصعوبات في تمويل الميزانية، يبدو أن هذه الإجراءات ستظل مؤجلة إلى أجل غير مسمى.

دولة اجتماعية بلا تمويل ولا رؤية

يُدرك المواطن التونسي اليوم أن الخطاب عن "العدالة الاجتماعية" لا يكفي، ما لم تدعمه أدوات تنفيذ وتمويل فعلي. فقد تحولت الإجراءات المعلنة إلى مجرد مراسيم غير قابلة للتطبيق، أو شعارات يراد منها تزيين المشهد دون تغييره.

في دولة تتجاوز فيها نسبة الفقر 20%، وتبلغ نسبة البطالة قرابة 16%، لا يمكن لأي إصلاح اجتماعي أن ينجح دون تمويل حقيقي. أما في ظل العجز المالي، وتقلص الاستثمار العمومي، وتدهور الخدمات، فإن الحديث عن "الدولة الاجتماعية" يتحول إلى مفارقة مؤلمة.

مشروع قانون المالية 2026: غياب رؤية واضحة لتمويل الخيارات الاجتماعية

رغم الإعلان الرسمي عن خيارات اجتماعية هامة خلال 2025، لا يحمل مشروع قانون المالية لسنة 2026 أي مؤشرات على توفير تمويل حقيقي ومستدام لهذه الإجراءات. إذ يبقى العجز المالي الكبير وحجم الدين العام عائقين رئيسيين أمام تنفيذ الإصلاحات الاجتماعية، بينما يصر القانون على سياسة تقشف وجباية توسعية دون تقديم حلول عملية تعزز القدرة الشرائية أو تحسن الخدمات الأساسية.

يعكس هذا الواقع غياب رؤية واضحة وإستراتيجية مالية متماسكة، ويزيد من مخاطر تأجيل تنفيذ الالتزامات الاجتماعية، مما يزيد من هشاشة المشهد الاقتصادي والاجتماعي ويعمق شعور المواطن بالإحباط وانعدام الثقة في قدرة الدولة على تحقيق وعد الدولة الاجتماعية.

إعلان

يدخل الاقتصاد التونسي سنة سياسية جديدة وسط أزمة مركبة مثقلا بالعديد من الملفات الحارقة التي بقيت دون معالجة: نمو اقتصادي ضعيف لا يتجاوز 2.5%، معدل تضخم رسمي في حدود 8.3%، مع ارتفاع غير مسبوق في أسعار الغذاء والطاقة، مديونية تتجاوز 90% من الناتج المحلي، وتراجع حاد في الاستثمار الأجنبي والمحلي.

ورغم هذا الوضع، فإن مشروع قانون المالية لا يُقدم أجوبة واقعية، بل يُكرر منطق الجباية التوسعية والتقشف. لا حديث عن إصلاح جبائي فعلي، ولا عن رؤية إنتاجية جديدة، ولا عن خطة لرقمنة الاقتصاد أو جذب الاستثمار. وكأن المطلوب من المواطن أن يتحمل الأزمة دون أن يكون له رأي في حلولها.

مشهد سياسي أحادي الصوت.. والفاعل واحد

في الجانب السياسي، تتكرس سابقة خطيرة: دولة بلا حياة سياسية فعلية. فلا أحزابٌ قادرةً على التأثير، ولا برلمان فاعلا، ولا مجتمع مدني مسموعا، ولا إعلامٌ حرا بالمعنى المؤسساتي.

الرئيس قيس سعيد هو الفاعل الوحيد تقريبا في المشهد. وهو من يُشرع، ويعين، ويراقب، ويتحدث باسم الدولة. المؤسسات صُفيت فعليا منذ الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو/تموز 2021، والانتخابات التشريعية لسنة 2023 عرفت أقل نسبة مشاركة شعبية منذ الثورة (أقل من 11%).

المفارقة أن هذا التركيز للسلطة لم يُنتج قرارات فعالة، بل عزز من حالة الجمود والغموض، وأبعد الدولة عن مقاربات التشاركية والمحاسبة والرقابة.

المرسوم 54: سيف مصلت على حرية التعبير

منذ صدوره، أصبح المرسوم رقم 54 أداة لتكميم الأصوات المنتقدة. فقد تمت ملاحقة صحفيين، وناشطين، ومواطنين عاديين بتهم تتعلق بـ"نشر الأخبار الزائفة"، لمجرد تعبيرهم عن رأي مخالف أو نشرهم معطيات محرجة للسلطة.

وفق تقارير منظمات حقوقية، سُجل أكثر من 60 تتبعا قضائيا في إطار هذا المرسوم فقط خلال السنة الماضية. وتحول من أداة قانونية إلى أداة ترهيب، تُقنن الصمت وتُعاقب الجرأة.

وفي غياب فضاء عمومي حر، بات التونسيون يُمارسون السياسة بصمت، أو في دوائر مغلقة، أو على سبيل التهكم… وما لا يُقال في العلن، يُخزن في الذاكرة الجماعية، إلى حين الانفجار.

تونس خارج مدارات المشهد الإقليمي والدولي

في وقت يعرف فيه الإقليم تحولات حادة، من تطورات الملف الفلسطيني، إلى التحولات في محور الساحل والصحراء، وصولا إلى تحالفات الطاقة والهجرة، تغيب تونس تماما. لا مبادرات، لا حضورَ فعالا، لا وضوح في الموقف. حتى العلاقات التقليدية مع الشركاء الأوروبيين، أو الدول العربية، أصبحت باردة أو مضطربة. وفيما يتحرك الجميع لإعادة التموضع، تنغلق تونس على ذاتها، وتفقد وزنها التاريخي كوسيط، وفاعل عقلاني، ودولة محورية في المتوسط.

تناقضات في شعار "التحرر الوطني" وأداء الواقع

رغم أن شعار "التحرر الوطني" كان المحور المركزي في خطاب قيس سعيد، فإن الواقع يكشف عن تناقض صارخ بين هذا الشعار والسياسات والممارسات الفعلية للحكم. فبدلا من تحقيق استقلال اقتصادي حقيقي، شهدت تونس زيادة متواصلة في التداين الخارجي، ما زاد من أعباء الدين العام وضغط الميزانية.

وتعطل الإنتاج في قطاعات حيوية، مع تراجع كبير في الاستثمارات المحلية والأجنبية، ما أضعف القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني.

إلى جانب ذلك، شهد المشهد السياسي موت العملية الديمقراطية مع محدودية أداء المؤسسات المنتخبة مثل مجلس النواب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، التي تحولت إلى هيئات شكلية تفتقد إلى الفاعلية والمصداقية.

هذا الواقع يجعل من شعار "التحرر الوطني" مجرد خطاب فارغ من أي مضمون، ويعمق الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها تونس اليوم.

فجوة في اتساع لا يتوقف

وفي مقابل هذا المشهد المرتبك، تواصل السلطة تكرار نفس الخطاب الشعبوي الذي يُحمل الآخرين دائما مسؤولية الفشل. فالمعارضون يُتهمون بالخيانة والعمالة للخارج، والإدارة العمومية توصف بالعجز والتواطؤ في عرقلة الإنجاز، ورجال الأعمال يُصورون كشبكات فساد وسرقة للمال العام.

إعلان

كل ذلك دون أن تُقدَم أجوبة دقيقة، أو تصورات واقعية، أو رؤية متماسكة تُجسد الشعارات المعلنة. لقد بقيت "الثورات الثلاث" التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيد في خطاب القسم في أكتوبر/تشرين الأول 2024، مجرد شعارات فضفاضة لم تُترجم إلى أي برامج ملموسة، وهو ما عمق الفجوة بين القول والفعل، وساهم في تآكل ثقة المواطن في وعود الحكم الفردي، الذي لا يقبل المحاسبة ولا يعترف بالشراكة السياسية.

هكذا يتضح التناقض الفج بين الخطاب السياسي المعلَن، وبين واقع اجتماعي واقتصادي يزداد هشاشة، يدفع المواطن وحده كلفته الكاملة يوميا.

ما تحتاجه تونس: تغيير المنهج لا تجميل الخطاب

لن تخرج تونس من أزمتها بخطاب شعبوي، ولا بتخوين المعارضين، ولا بمراسيم ارتجالية.

ما تحتاجه هو تغيير جذري في المنهج، وعودة إلى الحوار الوطني الحقيقي، واحترام المؤسسات والكفاءات، وإطلاق إصلاحات اقتصادية واجتماعية مدروسة، وصياغة أجندة وطنية تشاركية تمتد لسنوات.

الخطر الأكبر ليس في الأرقام فقط، بل في غياب البوصلة. لا أحد يعرف ما هو المشروع الفعلي الذي تسير فيه البلاد، ما هي أولوياتها، من هم الفاعلون الحقيقيون، وما موقع المواطن في كل هذا؟

لم يعد غياب الأجندة ظرفيا، بل أصبح بنية حكم، وأسلوب إدارة قائما على الخطاب العام بدل التخطيط، وعلى المركزية المفرطة بدل التشاركية، وعلى الشعبوية بدل المأسسة.

فالدولة التي لا تعرف إلى أين تتجه، ولا كيف تُدير أزماتها، ولا كيف تصغي لمواطنيها، تُهدد وجودها من الداخل، وتتآكل في مشروعيتها.

لكن هذا المطلوب لا يمكن تحقيقه تحت سلطة الانقلاب، بل يتطلب فضاء ديمقراطيا حرا وتعدديا، يضمن المشاركة السياسية والحريات الأساسية.

إن بناء الدولة لا يتم بالشعارات ولا بالاستعراضات القانونية، بل بتواضع سياسي، وبحكمة في الإدارة، وباحترام تراكمي للمنجز الديمقراطي.

والتاريخ لا يرحم الدول التي تُدير ظهرها للواقع وتُعيد تدوير الفشل كأنه مصير حتمي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



إقرأ المزيد