محللون: ما وراء جوع غزة منظومة قتل ممنهجة بآليات اقتصادية وسياسية
الجزيرة.نت -

19/7/2025-|آخر تحديث: 01:50 (توقيت مكة)

في عمق المشهد الإنساني المفجع الذي يعيشه قطاع غزة لا يختزَل الجوع في صور الأطفال النحيلين والوجوه الشاحبة فحسب، بل يتكشف كأداةٍ مركزية في منظومة قتل مركبة، تتداخل فيها القذائف مع القيود البنكية، وتتماهى فيها المجاعة مع التدمير الهيكلي للبيئة الصحية والاقتصادية.

فالمجاعة في قطاع غزة لم تعد مجرد نتيجة جانبية للحرب، بل أضحت، وفق تحليل ضيوف برنامج "مسار الأحداث"، سياسة مدروسة تتوسل آليات اقتصادية وسياسية لإخضاع السكان، عبر تفكيك البنية المجتمعية بأكملها، وإحكام الحصار، وتدمير أنماط البقاء اليومية.

يبرز هذا المشهد في شهادات يومية لأطباء ومراسلين يرصدون انهيارا غير مسبوق في قدرة السكان على الوصول إلى أدنى مقومات الحياة، وسط شحّ غذائي مريع وغياب متعمد للماء والدواء.

ومع تحوّل الشوارع إلى مسارح لسقوط الجياع، لم يعد بالإمكان الفصل بين الأعراض الطبية والخيارات السياسية، حيث يصبح الحرمان من الغذاء دواءً سياسيًا قاتلًا.

في هذا السياق، لا يُعد القصف الأداة الوحيدة للقتل، بل يتقاطع مع 4 آليات أخرى كما عدّدها الدكتور مصطفى البرغوثي الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية في حديثه لمسار الأحداث.

أولى تلك الآليات، التجويع المباشر، ثم الأمراض الناتجة عن شرب المياه الملوثة وغياب الأغذية، وثالثها التسمم البيئي الناتج عن عشرات آلاف الأطنان من المتفجرات، ورابعها حرمان المرضى من العلاجات المزمنة، في مشهد يرقى إلى نموذج مركّب من القتل الصامت، حسب البرغوثي.

رد فعل مشلول

هذه الإستراتيجية لا تُمارس في الخفاء، بل تنفَّذ على مرأى من المجتمع الدولي، فرغم التقارير الأممية التي تجاوزت فيها الكلمات حدود الوصف -كما أقرّ توم فليتشر مسؤول الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة- يبقى رد الفعل الدولي مشلولا، يتأرجح بين الإدانات الشكلية والتواطؤ العملي.

إعلان

والأدهى، أن منظمات الإغاثة مثل "مؤسسة غزة الإنسانية"، لم تعد مجرد صمامات إغاثية، بل تحولت -بحسب البرغوثي- إلى مصايد قتل ممنهجة، حيث سقط مئات الفلسطينيين خلال محاولاتهم الحصول على الغذاء من نقاط توزيعها.

الأخطر أن سياسة التجويع باتت ذات بنية مزدوجة: تدميرية من جهة، وتفكيكية من جهة أخرى، فهي لا تكتفي بقتل السكان جسديا، بل تفتك أيضا بأواصر المجتمع، عبر إطلاق العنان لتجار الحروب، وتشجيع وكلاء محليين مرتبطين بالاحتلال على سرقة المعونات وإعادة بيعها بأسعار خيالية.

وهذه البيئة المنفلتة غذّت ظاهرة ابتزاز المساعدات، حيث تصل عمولات صرف الحوالات إلى 40%، في ظل انهيار النظام البنكي في القطاع بفعل الحصار الإسرائيلي.

ويتداخل ذلك مع بروز "اللايقين القانوني" على المستوى الدولي، إذ تتجاهل القوى الكبرى -لا سيما الولايات المتحدة– كافة الوقائع الموثقة التي ترقى إلى مستوى جرائم إبادة جماعية بموجب نظام روما الأساسي.

وبينما تؤكد المحكمة الجنائية الدولية وجود مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء إسرائيل ووزير دفاعه السابق، تتعامل الدول الغربية مع تلك المذكرات كأنها إعلانات دعائية لا تُلزمها بأي فعل تنفيذي.

استهداف المبادرات الذاتية

وفي خضمّ هذه الكارثة، تتعرض حتى المبادرات الذاتية -كالتكايا- للاستهداف الإسرائيلي المباشر، فهذه المبادرات، التي انطلقت في الأساس من أفراد أو منظمات أهلية، تحوّلت مع مرور الوقت إلى عبء إضافي.

إذ بات شحّ الإمدادات يدفعها إلى التنافس على القليل المتاح في الأسواق، مما يفاقم غلاء الأسعار، ويُدخل المجتمع المحلي في حلقة جوع مغلقة، كما أوضح الدكتور عثمان الصمادي الباحث والناشط في العمل الإنساني.

وتتحوّل غزة إلى مختبر سياسي واجتماعي لاختبار حدود الصبر الإنساني، فالتجويع ليس فقط وسيلة لإجبار حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على تقديم التنازلات، بل إستراتيجية تندرج في مشروع أوسع لتفريغ القطاع من سكانه أو إعادة تشكيله تحت شروط مذلة، تقوم على معادلة "الإعمار مقابل الإخضاع"، وفق توصيف البرغوثي.

وعلى الجانب الآخر، يبرز تحدٍّ وجودي يتمثل في إدخال المساعدات ضمن طاولة المفاوضات، فبينما يفترض أن تكون الإغاثة أداة محايدة بموجب القانون الدولي، يجري استخدامها كورقة ضغط تفاوضية، تتحكم إسرائيل في توقيتها وآليتها، وتبتز بها سكان غزة، الذين باتوا يفاوضون على أبسط حقوقهم الغذائية والدوائية.

أمام هذه المعادلة المختلة، تتكثف الدعوات -حسب الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي- إلى تحرك شعبي عربي ودولي يستعيد زمام المبادرة، بعد أن تخلّت عنه المؤسسات الأممية والدول الكبرى، فالشعوب، وإن كبّلتها أنظمتها، تبقى البوصلة الأخلاقية الأخيرة، القادرة على مواجهة المجرم حين يصمت العالم، وعلى الانتصار للضحية حين يتخلى عنها الجميع.

في نهاية المطاف، لا تمثل مجاعة غزة مأساة عابرة، بل اختزالا مكثفا لتحوّلات النظام الدولي نحو شكل أكثر توحشا، حيث تسقط المعايير الأخلاقية، ويُمنح القتل آليات اقتصادية وسياسية متقنة، تعمل ببطء ولكن بفعالية.

إعلان

ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ترتكب إسرائيل بدعم أميركي إبادة جماعية في غزة تشمل قتلا وتجويعا وتدميرا وتهجيرا، متجاهلة النداءات الدولية وأوامر أصدرتها محكمة العدل الدولية بوقفها.

وخلفت الإبادة أكثر من 198 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح -معظمهم أطفال ونساء- إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح العديد من سكان القطاع.



إقرأ المزيد