جريدة الراي - 11/20/2025 9:30:35 PM - GMT (+3 )
مِن مُتعي في الدنيا حالياً إمضاء وقت طويل مع الأحفاد والحفيدات والدخول معهم في تفاصيل الدراسة ومنها إلى أحاديث الحياة العامة. وهذه المتع لا تخلو من عنصر مفاجأة بسؤال مباغت كالذي سألته حفيدتي وهي في الخامسة عشرة من عمرها وأنا أساعدها في دروس الدين: «بابا جاسم، لماذا نزلت الرسالة الإسلامية هنا في هذه المنطقة؟ ولم تنزل مثلاً في مناطق أخرى؟».
«بابا جاسم» سريع البديهة إنما ليس إلى الدرجة التي يمتلك فيها إجابة سريعة عن موضوع وجودي تتشابك فيه مفاهيم الدين بالحضارة بالمجتمع.
لماذا كنا موطن الدين الحنيف؟
بما أنني لستُ راسخاً في العلم الشرعي ولا الفلسفة التاريخية، كان لا بد من أن أبحث عن إجابة من باب التفسيرات التاريخية ومقاربات المنطق وليس من باب الجزم أو الانحياز لما يراه البعض حقائق ثابتة.
قبل الإسلام، ومقارنة بالأمم الأخرى، كنا أقل تألقاً في ما يتعلق بازدهار الحضارات وتمددها. أقصد المعنى المدني للموضوع. ففي الجاهلية كان لأهل هذه الأرض مكانة تجارية وقوة اقتصادية من رحلات الشتاء والصيف وكانت عندهم قدرات تنظيمية لمواسم زيارة الكعبة. ترافق ذلك مع فراغ روحي ملأته معتقدات وثنية.
لكن الحضارة بمعناها الواسع، أي وجود عوامل طبيعية مساعدة مثل الأنهار والأراضي الزراعية، وتنظيم التنقل والاستيطان، وقيام كُتل سكانية تعيش عند مصادر الماء والغذاء تطورت لاحقاً إلى مدن، وتشكيل سلطات مدنية تحوّلت إلى مركزية لاحقاً، والبراعة في الطب والفن والهندسة والمعمار وهي العوامل المعبرة عن صورة المجتمعات... كانت موجودة عند غيرنا أكثر. كما لعبت السلطة الدينية في مجتمعات أخرى قبل الإسلام دوراً في المواكبة الحضارية إلى جانب سُلطة الحكم وتمثّل ذلك في ما بقي من آثار ومعابد... هذه الصورة الحضارية بكل تفاصيلها تابعنا مساراتها من الصين شرقاً إلى المكسيك غرباً مروراً ببلاد الهند والسند ومصر وبعض الدول الأوروبية.
قبل نزول الوحي بمئات وآلاف السنين، تراكمت حضارات مثل السومرية واليونانية والفرعونية والصينية والهندية والفارسية والرومانية وغيرها، ما زالت متاحف العالم وكتب التاريخ شاهدة على «شواهدها»، وما زال العلم – في حالة الحضارة اليونانية الإغريقية مثلاً – حتى اللحظة متفاعلاً مع قيمها الفلسفية.
في التفكير الأولي، وليس من باب الجزم، هل كان يمكن لرسالة دينية بشكل عام، أن تنزل في إحدى تلك الحضارات من دون أن تتصادم معها أو أن تفقد زخمها الرسالي نتيجة التنافس مع واقع قوي قائم؟ إذا كان المجتمع القريشي وهو الوثني المرتكز على النفوذ التجاري والاقتصادي والسياسي قاوم انتشار الإسلام فترة طويلة فما بالنا بحضارات عريقة عمرها آلاف السنين؟ صحيح أن تلك المجتمعات عرفت طقوساً دينية مختلفة لكن النظرة العميقة لها تظهر كم أن البعد الحضاري الذي كان موجوداً امتزج بها وكان جسراً لانتشارها.
الموضوع طبعاً يحتاج إلى مجلدات فهو في نقطة تشابك كبرى بين الدين والرسالات والحضارات والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع. ومن هنا أعتقد – والله أعلم - أن نزول الإسلام في شبه الجزيرة كان أيضاً مقصداً حضارياً وليس دينياً فقط، غيّر الأنماط السائدة في الجاهلية وتوسّع وانتشر باعتباره مؤسساً لحضارة قيمية عظيمة لم تتصادم مع ما كان سائداً لتواضعه بالمقارنة مع أمم تاريخية سابقة، لكنها صهرت الموجود سريعاً وأعطته الصورة التي جعلته ينتشر ويتمدّد في حضارات كانت تتباهى بأنها عصيّة على التغيير.
نحن الآن أمام حضارة إسلامية. مصطلح عابر للجغرافيا. الوحيدة في الدنيا التي تنسب إلى دين لا إلى منطقة وأرض. حضارة عمّمها سيد الأنبياء وأكرمهم عند رب العالمين محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي أسّس أول دولة في المدينة ونشر القيمة الروحية بالتوازي مع القيمة المادية... وغطّى تزاوج القِيمتين على النواقص التي تحتاجها المجتمعات للتطور.
نزول الإسلام في هذه المنطقة لم يرتبط بحضارة محدّدة قائمة لأنه دين للعالمين أجمع. بدأ من منطقة تتمتع ببيئة شبه صافية كونها لم تشهد تراكمات لرواسب حضارية أممية تاريخية، وأطلق عصراً حضارياً ذهبياً من تشكيل الدولة الأولى، ثم تطوير السلطة وتوسيعها وتنظيم انتشار التجمعات في أماكن الغذاء والماء، وتثبيت الحُكم، ثم فتح الباب لطوفان العلوم بكل مندرجاتها، ثم زرع العمران والمساهمات التاريخية العظيمة التي ما زالت شواهدها قائمة في الدول الغربية والشرقية التي شهدت الفتوحات... قبل أن يقضي أمراء الطوائف «المسلمون» على ذلك ويسجل التاريخ أن حضارة عظيمة ساهم «أبناؤها» في هدم بعض مرتكزاتها.
وكما أربكتني حفيدتي ودفعتني إلى البحث والتعمق قبل أن أجيب وأجتهد حسب قدرتي، فأعتقد أن رأيي خطأ يحتمل الصواب وأن رأي غيري صواب يحتمل الخطأ، ومع ذلك، هي دعوة أيضاً للآخرين – لا لإرباكهم كما فعلت حفيدتي- بل للمساهمة في الإجابة عن سؤال البعد المكاني لنزول الرسالة والسبب والهدف، والأهم مساعدتي في تبسيط الإجابات لجيل جديد مسكون... بالأسئلة.
الله سبحانه وتعالى أعلم بتمام حكمته وما أقوله وغيري يبقى اجتهاداً بشرياً قاصراً عن الإحاطة بالقدر.
إقرأ المزيد


